للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جحش أن تكون أخته وهي قرشيّة هاشميّة وهي فوق ذلك ابنة عمة الرسول، تحت عبد رقّ اشترته خديجة ثم أعتقه محمد، ورأى في ذلك على زينب عارا كبيرا. وكان ذلك عارا حقّا عند العرب كبيرا. فلم تكن بنات الأشراف الشريفات ليتزوّجن من موال وإن أعتقوا. لكن محمدا يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّة وحدها، وأن يدرك الناس جميعا أن لا فضل لعربيّ على أعجمي إلا بالتقوى. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) «١» . وهو لا يرى أن يستكره لذلك امرأة من غير أهله. فلتكن زينب بنت جحش بنت عمته هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب، وهذا الهدم لعاداتها، معرضة في ذلك عما يقول الناس عنها مما تخشى سماعه. وليكن زيد مولاه الذي تبنّى، والذي أصبح بحكم عادات العرب وتقاليدها صاحب حق في أن يرثه كسائر أبنائه سواء، هو الذي يتزوّجها فيكون مستعدّا للتضحية التي أعدّ الشارع الحكيم للأدعياء الذين اتّخذوا أبناء. وليبد محمد إصراره على أن تقبل زينب ويقبل أخوها عبد الله بن جحش زيدا زوجا لها؛ ولينزل في ذلك قوله تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) «٢» .

لم يبق أمام عبد الله وأخته زينب بعد نزول هذه الآية إلا الإذعان؛ فقالا: رضينا يا رسول الله. وبنى زيد بزينب بعد أن ساق النبيّ إليها عنه مهرها. فلما سارت زينب إلى زوجها لم يسلس له قيادها ولا لان إباؤها، بل جعلت تؤذي زيدا وتفخر عليه بنسبها وبأنها لم يجر عليها رقّ، واشتكى زيد إلى النبيّ غير مرّة من سوء معاملتها إياه، واستأذنه غير مرّة في تطليقها، فكان النبي يجيبه: «أمسك عليك زوجك واتق الله» . لكنّ زيدا لم يطق معاشرة زينب وإباءها عليه طويلا فطلقها.

وكأن الشارع الحكيم قد أراد أن يبطل ما كانت تدين به العرب من التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، ومن إعطاء الدعيّ جمع حقوق الابن، ومن إجرائهم عليه أحكامه حتى في الميراث وحرمة النسب، ولا يجعل للمتبني واللصق إلا حقّ المولى والأخ في الدين. فنزله قوله تعالى: (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) «٣» . ومعنى هذا أنه يجوز للمدعي أن يتزوّج ممن كانت زوجا لمن ادّعاه، ويجوز للمتبنيّ أن يتزوّج ممن كانت زوجا لمتبنّاه. ولكن كيف السبيل إلى تنفيذ هذا؟ ومن من العرب يستطيعه وينقض به تقاليد الأجيال السالفة جميعا؟ إن محمدا نفسه، على قوّة عزيمته وعميق إدراكه لحكمة الله في أمره، قد وجد على نفسه الغضاضة في تنفيذ هذا الحكم بأن يتزوّج زينب بعد تطليق زيد إيّاها، نفوس العرب؛ وذلك ما يريده تعالى في قوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) «٤» .

[كيف تزوج محمد من زينب]

لكن محمدا كان القدوة في كل ما أمر الله به وما ألقي عليه أن يبلغه للناس؛ فلا يخشى ما يقول الناس في تزوجّه من زوج زيد مولاه، فخشية الناس ليست شيئا إلى جانب خشية الله بتنفيذ أمره، وليتزوج من زينب ليكون قدوة فيما أبطل الشارع الحكيم من الحقوق المقرّرة للتبني، والادّعاء. وفي ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) «٥» .


(١) سورة الحجرات آية ١٣.
(٢) سورة الأحزاب آية ٣٦.
(٣) سورة الأحزاب آية ٤.
(٤) سورة الأحزاب آية ٣٧.
(٥) سورة الأحزاب آية ٣٧.

<<  <   >  >>