للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النبوّة. لكن هرقل رأى الخير في أن يكون الحارث ببيت المقدس حين زيارته إيّاه ليزيد في جلال الحفلات بردّ الصليب إليه، ولم يعبأ بهذا الداعي إلى دين جديد، ولم يدر بخلده أنه لن تمضي سنوات قليلة حتى يكون بيت المقدس وتكون الشام في ظل الراية الإسلامية، وأن العاصمة الإسلامية ستنتقل إلى دمشق، وأن النضال بين دول الإسلام والإمبراطورية الرومية لن تهدأ ثائرته حتى يستولي الأتراك على القسطنطينية في سنة ١٤٥٣، وحتى يحيلوا كنيستها الكبرى مسجدا يكتب فيه اسم هذا النبيّ الذي حاول هرقل أن يظهره مظهر من لا يحفل به أو يعني بأمره، وأن تظل هذه الكنيسة مسجدا عدّة قرون حتى يحيلها المسلمون الأتراك متحفا للفن البزنطي.

[كسرى وكتاب النبي]

أمّا كسرى عاهل الفرس فإنه ما لبث حين تلى عليه كتاب محمد يدعوه إلى الإسلام أن استشاط غضبا وشق الكتاب، وكتب إلى بازان عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز. ولعله كان يحسب في هذا ما يخفّف من آثار هزائمه أمام هرقل. فلمّا بلغت النبيّ مقالة كسرى وما فعل بكتابه قال:

مزّق الله ملكه. وأوفد بازان رسله برسالة إلى محمد. وفي هذه الأثناء كان كسرى قد خلفه شيرويه، وكان النبيّ قد عرف ذلك فأخبر رسل بازان به، وطلب إليه أن يكونوا رسله إلى بازان يدعونه إلى الإسلام. وكان أهل اليمن قد عرفوا ما حلّ بفارس من هزائم وقد شعروا بانحلال سلطانها عنهم، وقد اتّصلت بهم انتصارات محمد على قريش وقضاؤه على سلطة اليهود. فلما رجع رسل بازان إليه وأبلغوه رسالة النبيّ، كان سعيدا بأن يسلم وأن يبقى عامل محمد على اليمن. وماذا ترى يطلب محمد إليه وما تزال مكة بينه وبينه؟ إذا فله الغنم بعد أن تقلّص ظلّ فارس في أن يحتمي بالقوّة الناشئة الجديدة في بلاد العرب من غير أن تطلب إليه هذه القوّة شيئا.

ولعلّ بازان لم يقدّر يومئذ أن انضمامه إلى محمد كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة، كما دلّت الأحوال عليه بعد عامين اثنين.

وكان ردّ المقوقس عظيم القبط في مصر غير ردّ كسرى، بل كان أجمل من ردّ هرقل. فقد بعث إلى محمد يخبره أنه يعتقد أن نبيّا سيظهر، ولكنه سيظهر في الشام، وأنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهديّة. جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض خيرات مصر. أمّا الجاريتان فمارية التي اصطفاها النبي لنفسه والتي ولدت له إبراهيم من بعد، وسيرين التي أهديت إلى حسّان بن ثابت. وأمّا البغلة فأسماها النبيّ دلدل، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي رأتها بلاد العرب. وأمّا الحمار فأسمى عفيرا أو يعفورا. وقبل محمد هذه الهدية، وذكر أن المقوقس لم يسلم خشية أن يسلبه الروم ملك مصر، وأنه لولا ذلك لآمن ولكان حظّه الهدى.

وكان طبيعيّا، بعد الذي عرفنا من صلات نجاشي الحبشة بالمسلمين، أن يكون ردّه جميلا، حتى لقد ورد في بعض الروايات أنه أسلم وإن أثارت طائفة من المستشرقين الشك حول إسلامه هذا. على أن الرسول بعث له غير كتاب دعوته إلى الإسلام بكتاب آخر يطلب إليه ردّ المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة. وقد جهّز لهم النجاشي سفينتين حملتاهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومعهم أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان بعد أن مات زوجها عبد الله بن جحش الذي جاء إلى الحبشة مسلما ثم تنصّر وبقي على نصرانيته حتى مات. وقد أصبحت أمّ حبيبة بعد عودها من الحبشة من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. ذكر بعض المؤرخين أن النبي تزوّجها ليرتبط مع أبي سفيان برابطة النسب توكيدا لعهد الحديبية. ورأى آخرون في زواج رملة من محمد، وأبو سفيان على وثنيته، ما تألم له نفسه ويغصّ به حلقه.

<<  <   >  >>