للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد أمكنه الله من عدوّه، فقدر فعفا، فضرب بذلك للعالم كله ولأجياله جميعا مثلا في البرّ والوفاء بالعهد، وفي سموّ النفس سموا لا يبلغه أحد.

[الصور في الكعبة]

ودخل محمد الكعبة فرأى جدرانها صوّرت عليها الملائكة والنبيون، ورأى إبراهيم مصوّرا في يده الأزلام «١» يستقسم بها، ورأى بها تمثال حمامة من عيدان فكسرها بيده وألقاها إلى الأرض، أمّا صورة إبراهيم فنظر محمد إليها مليّا وقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام! ما كان إبراهيم يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. أمّا الملائكة الذين صوّروا نساء ذات جمال، فقد أنكر محمد صورهم أن ليست الملائكة ذكورا ولا إناثا. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكانت حول الكعبة الأصنام التي كانت تعبدها قريش من دون الله، قد شدّت إلى جدرها بالرصاص، كما كان هبل في داخل الكعبة؛ فجعل محمد يشير إلى هذه الأصنام جميعا بقضيب في يده وهو يقول: (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) «٢» .

[تطهير الكعبة من الأصنام]

وكبّت الأصنام على وجوهها وظهورها، وطهر البيت الحرام بذلك منها. وأتمّ محمد بذلك في أوّل يوم لفتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة، وما حاربته مكة أشدّ الحرب فيه. أتمّ تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا.

[مخاوف الأنصار وتبديدها]

ورأى الأنصار من أهل المدينة ذلك كله، ورأوا محمدا يقوم على الصفا ويدعو، فخيل إليهم أنه تارك المدينة إلى وطنه الأول وقد فتحه الله عليه، وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ ولعلهم كانوا على حق في مخاوفهم. فهذا رسول الله: وبمكة البيت الحرام بيت الله، وبمكة المسجد الحرام. لكن محمدا ما لبث حين أتم دعاءه أن سألهم ما قالوا؟ فلما عرف بعد تردّد منهم مخافتهم قال:

«معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم» . فضرب بذلك للناس مثلا في البرّ بعهده في بيعة العقبة، وفي الوفاء لأنصاره الذين وقفوا ساعة الشدة إلى جانبه برّا ووفاء لا ينسيهما وطن ولا أهل ولا تنسيهما مكة البلد الحرام.

ولمّا أن طهّرت الكعبة من أصنامهما، أمر النبيّ بلالا فأذّن فوقها، وصلى الناس بإمامة محمد. ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر، مدى أربعة عشر قرنا مضت لا تنقطع، وبلال وخلفاء بلال من بعده ينادون بالأذان، كلّ يوم خمس مرات من فوق مسجد مكة. ومدى أربعة عشر قرن مضت من يومئذ يؤدّي المسلمون فرض


(١) الأزلام (واحدها زلم بفتحتين، وبضم ففتح) هي القداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر والنهي: افعل ولا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وعاء، فإذا أراد سفرا أو زواجا أو أمرا مهما أدخل يده في الوعاء بعد إجالتها وتحريكها فأخرج منها زلما، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كف عما اعتزم ولم يفعله. والاستقسام بها معرفة قسم الإنسان، أي حظه ونصيبه.
(٢) سورة الإسراء آية ٨١.

<<  <   >  >>