للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصلاة لله والصلاة على رسوله، متوجهين إلى الله بقلوبهم وعقولهم، مستقبلين هذا البيت الحرام الذي طهّره محمد يوم الفتح من أوثانه وأصنامه.

وأذعنت قريش لما حلّ بها، واطمأنت لعفو محمد عنها، وأقامت تنظر إليه وإلى المسلمين من حوله بعيون كلها دهش وإعجاب يمازجها الخوف والحذر. لكن طائفة منها عدّتها سبعة عشر رجلا، كان محمد قد استثناها من رحمته وأمر ساعة دخول مكة أن يقتل رجالها ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، كان قد آثر بعضها الاختفاء ولاذ بعضها بالفرار. ولم يكن قرار محمد قتلهم لحقد منه أو غضب عليهم؛ فهو لم يكن يعرف الحقد، ولكن لجرائم كبيرة ارتكبوها. فأحدهم عبد الله بن أبي السرّح كان قد أسلم وكان يكتب لمحمد الوحي، فارتدّ مشركا إلى قريش زاعما أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه. وعبد الله بن خطل كان قد أسلم ثم قتل مولى له وارتد مشركا وأمر جاريتيه فرتنى وصاحبتها فكانتا تغنيان بهجاء محمد، فأمر بقتلهما معه. وعكرمة بن أبي جهل وكان من أشدّ الناس لددا في خصومة محمد والمسلمين خصومة لم تهدأ حتى بعد فتح مكة ودخول خالد بن الوليد من أسفلها.

[العفو عمن أمر النبي بقتلهم]

أمر محمد بعد دخول مكة ألا يسفك بها دم أو يقتل فيها أحد غير هذه الطائفة. لذلك اختفى رجالها ونساؤها وفرّ منهم من فرّ. فلمّا استقر الأمر وهدأت الحال ورأى الناس من فسحة صدر الرسول ومن عفوه الشامل ما رأوا، طمع بعض أصحابه في أن يعفو حتى عن هؤلاء الذين أمر أن يقتلوا. فقام عثمان بن عفّان، وكان أخا ابن أبي السّرح للرضاعة، حتى أتى به النبيّ فاستأمن له. فصمت محمد طويلا، ثم قال: نعم، وأمّته. وأسلمت أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ إلى اليمن واستأمنت له محمدا فأمّنه، فخرجت في طلبه وجاءت به. وعفا محمد كذلك عن صفوان بن أميّة وكان قد صحب عكرمة في فراره إلى ناحية البحر يستقلّانه إلى اليمن، فجيء بهما والسفينة التي تحملهما على أهبة إقلاعها. وعفا محمد كذلك عن هند زوج أبي سفيان التي مضغت كبد حمزة عم الرسول بعد استشهاده في أحد، كما عفا عن أكثر من أمر بقتلهم. ولم يقتل منهم إلا أربعة، منهم الحويرث الذي أغرى بزينب بنت النبيّ حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلان أسلما ثم ارتكبا بالمدينة جريمة القتل وفرّا راجعين إلى مكة مرتدّين إلى الشرك، وإحدى قينتي ابن خطل اللتين كانتا تؤذيان النبيّ بغنائهما، وفرّت الآخرى، ثم استؤمن لها.

[تحريم مكة على الناس جميعا]

وفي غداة يوم الفتح عثرت خزاعة على رجل من هذيل وهو مشرك فقتلوه فغضب النبيّ وقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس، إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة لا يحلّ لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد «١» . فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلّا هذه الساعة غضبا على أهلها، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب. فمن قال لكم إنّ رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلّها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع. لقد قتلتم قتيلا لأدينّه. فمن قتل بعد مقالي هذا فأهله بخير النّظرين: إن شاؤا فدم قاتله، وإن شاؤا فعقله» «٢» . ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة، وبهذا الخطاب وبتصرفه الذي زاد على السماحة والعفو أمس، كسب محمد قلوب أهل


(١) يعضد: يقطع.
(٢) العقل: الدية.

<<  <   >  >>