للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أهدى محمد إلى يوحنا رداء من نسج اليمن وأحاطه بكل صنوف الرعاية، بعد أن اتّفق على أن تدفع أيلة جزية قدرها ثلثمائة دينار في كل عام.

[غزوة ابن الوليد دومة]

لم يبق محمد في حاجة إلى القتال بعد انسحاب الروم، وبعد معاهدة البلاد الواقعة على الحدود معه، وبعد أمنه عودة الجيوش البزنطية من هذه الناحية لولا خيفة انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكنديّ النصرانيّ أمير دومة «١» ، ومعاونته. جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته. ولذلك بعث النبيّ إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس وانقلب بجيشه راجعا إلى المدينة. وأسرع خالد بالانتقاض على دومة في غفلة من مليكها الذي خرج في ليلة مقمرة ومعه أخ له يسمى حسّان يطاردان بقر الوحش. ولم يلق خالد. مقاومة تذكر، فقتل حسّان وأخذ أكيدر أسيرا وهدّده بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها. وفتحت المدينة الأبواب فداء لأميرها، وساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من برّ وأربعمائة درع، وذهب بها ومعه أكيدر حتى لحق بالنبيّ في عاصمته. وعرض محمد الإسلام على أكيدر فأسلم وأصبح له حليفا.

[عودة المسلمين إلى المدينة]

لم يكن عود محمد على رأس هذه الألوف من جيش العسرة من حدود الشام إلى المدينة بالأمر الهيّن. فلم يدرك كثيرون من هؤلاء مغزى الاتفاق الذي عقد مع أمير أيلة والبلاد المجاورة له، ولم يقيموا كبير وزن لما حقّقه محمد بهذه الاتفاقات من تأمين حدود شبه الجزيرة وإقامة هذه البلاد معاقل بينه وبين الروم، بل كان كل الذي نظروا إليه أنهم قطعوا هذه الشقة الطويلة، وتحمّلوا في قطعها ما تحملوا من الأذى، ثم عادوا لم يغنموا ولم يأسروا، بل لم يقاتلوا، وكلّ الذي فعلوا أن أقاموا بتبوك قرابة عشرين يوما. فهل لهذا قطعوا الصحراء في شدّة القيظ في حين كانت ثمار المدينة قد طابت وآن أن يستمتع الناس بها؟! وجعل جماعة منهم يستهزئون بما فعل محمد؛ ونقل من ملأ الإيمان قلوبهم نبأهم إليه. فأخذ المستهزئين بالشدّة حينا وباللين حينا، والجيش يسير قافلا إلى المدينة ومحمد يحفظ النظام في صفوفه. حتى إذا انتهى إليها لم يلبث ابن الوليد أن لحقه بها؛ لحقه ومعه أكيدر، وما حمل من دومة من إبل وشاة وبرّ ودروع، وعلى أكيدر حلّة من ديباج موشى بالذهب بهت أهل المدينة لمرآها.

هنالك اضطرب الذين تخلّفوا عن اتباعه اضطرابا ردّ المستهزئين إلى صوابهم. جاء المتخلّفون يعتذرون وأكثرهم يشوب معاذيره الكذب. وأعرض محمد عما صنعوا تاركا لله حسابهم. لكن ثلاثة صدقوا الله ورسوله فاعترفوا بتخلفهم واعترفوا بذنبهم. هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة.

وهؤلاء الثلاثة أمر محمد فأعرض المسلمون عنهم خمسين يوما لا يكلمهم أحد ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة.

ثم تاب الله على هؤلاء الثلاثة وعفا عنهم ونزل فيهم قوله تعالى: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) «٢»


(١) دومة: هي المعروفة بدومة الجندل، على سبع مراحل من دمشق بينها وبين المدينة.
(٢) سورة التوبة آيتا ١١٧ و ١١٨.

<<  <   >  >>