للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأصنام وكفى، ولو أنه كان كذلك لوجبت محاربته؛ فمن الازدراء للعقل الإنساني وللكرامة الإنسانية أن يعبد الإنسان حجرا. ولكن هذا الشرك كان يمثّل مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، بل كان يمثّل نظاما اجتماعيّا هو شرّ من الرق وشرّ من البلشفية وشرّ من كل ما يتصور العقل في هذا القرن المتم للعشرين. كان يمثّل وأد البنات، وتعدّد الزوجات إلى غير حدّ، حتى ليحلّ للرجل أن يتزوّج ثلاثين وأربعين ومائة وثلثمائة امرأة وأكثر من ذلك. وكان يمثّل الربا في أفحش ما يستطيع الإنسان أن يتصوّر الربا. وكان يمثّل الإباحيّة الخلقية في أسفل صورها، وكانت جماعة الوثنيين العرب شرّ جماعة أخرجت للناس. ونودّ من كل منصف أن يجيب عن هذا السؤال: لو أن جماعة من الناس وضعت لنفسها اليوم نظاما فيه من العقائد والعادات وأد البنات، وتعدّد الزوجات، وإباحة الرق لسبب أو لغير سبب، واستغلال الأموال استغلالا فاحشا، ثم قامت ثورة على ذلك كله تحاول تحطيمه والقضاء عليه، أتتّهم هذه الثورة بالتعصّب وبالعمل ضدّ حرية الرأي؟! وإذا افترضنا أن أمة اطمأنّت إلى هذا النظام الاجتماعي المنحطّ وأوشكت العدوى أن تنتقل منها إلى غيرها من الدول فاذنتها هذه الدول بحرب، أتكون الحرب مسوّغة أم غير مسوّغة؟! أو لا تكون مسوّغة أكثر من الحرب الكبرى الأخيرة التي طاحت بملايين من أهل هذا العالم لغير سبب إلا الشره والجشع من جانب دول الاستعمار؟! وإذا كان ذلك شأنها فما عسى أن تكون قيمة نقد المستشرقين للآيات التي تلاها القارئ من سورة براءة، ولدعوة الإسلام إلى حرب الشرك وأهله ممن يدعون إلى إقامة نظام فيه ما ذكرنا وشرّ مما ذكرنا!

[الثورة على الشرك مسوغة]

وإذا كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في شأن هذا النظام الذي كان قائما في بلاد العرب يظلّه علم الشرك والوثنية، فهناك أيضا حقيقة تاريخية أخرى مستمدّة من حياة الرسول. فهو قد أنفق منذ بعثه الله برسالته ثلاث عشرة سنة حسوما يدعو الناس فيها إلى دين الله بالحجة ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو فيما قام به من غزوات لم يكن معتديا قط، وإنما كان مدافعا عن المسلمين دائما، مدافعا عن حرّيتهم في الدعوة إلى دينهم الذي يؤمنون به ويضحّون بحياتهم في سبيله. هذه الدعوة القويّة إلى قتال المشركين على أنهم نجس، وأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، وأنهم لا يرعون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وإنما نزلت بعد آخر غزوة غزا النبيّ: تبوك، فإذا حلّ الإسلام ببلاد تفشى فيها الشرك وحاول أن يقيم فيها هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الهدّام الذي كان قائما في شبه الجزيرة حين بعث النبيّ، فدعا المسلمون أهلها إلى ترك هذا النظام، وإلى الأخذ بما أحلّ الله وتحريم ما حرّم فلم يذعنوا، فليس من منصف إلا يقول بالثورة عليهم، وبقتالهم حتى تتم كلمة الحق، وحتى يكون الدين كله لله.

ولقد أثمر هذا الذي تلا عليّ من «براءة» وما نادى في الناس بألا يدخل الجنة كافر، وبألا يحجّ بعد العام مشرك، وبألا يطوف بالبيت عريان، خير الثمرات، وأزال كل تردّد من نفوس القبائل التي كانت ما تزال متباطئة في تلبية دعوة الإسلام.

وبذلك دخلت في الإسلام بلاد اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يبق من يناوئ محمدا إلا عددا قليلا أخذتهم العزة بالإثم وغرّهم بالله الغرور. من هؤلاء عامر بن الطفيل الذي ذهب مع وفد بني عامر ليستظّلوا براية الإسلام، فلما كانوا عند النبيّ امتنع عامر ولم يسلم، وأراد أن يكون للنبي ندّا. وأراد النبيّ أن يقنعه كيما يسلم، فأصرّ على إبائه، ثم خرج وهو يقول: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا قال محمد:

اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل! وانصرف عامر يريد قومه، وإنه لفي بعض الطريق إذ أصابه الطاعون في عنقه

<<  <   >  >>