للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[اشتداد الحمى وخروجه إلى المسجد]

وزادت به الحمى في الأيام الأولى من مرضه، حتى لكان يشعر كأن به منها لهبا. لكن ذلك لم يكن يمنعه ساعة تنزل الحمى من أن يمشي إلى المسجد ليصلي بالناس. وظلّ على هذا عدّة أيام، لا يزيد على الصلاة ولا يقوى على محادثة أصحابه ولا خطابهم، وإن لم يحل ذلك دون أن يصل الهمس إلى أذنه بما يقول الناس إنه أمّر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار لغزو الشام. ومع أنه كان يزداد وجعه كلّ يوم شدّة، لقد شعر من هذا الهمس بضرورة التحدّث إلى الناس حتى يعهد إليهم؛ فقال لأزواجه وأهله: «هريقوا عليّ سبع قرب من آبار شتّى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» . وجىء بالماء من آبار مختلفة، وأقعده أزواجه في مخضب «١» لحفصة، وصببن عليه ماء القرب السبع حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم. ولبس ثيابه وعصب رأسه وخرج إلى المسجد وجلس على المنبر، فحمد الله ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر من الصلاة عليهم، ثم قال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها» . وسكت محمد هنيهة خيّم الصمت على الناس أثناءها. ثم عاد إلى الحديث فقال: «إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله» .

وسكت محمد من جديد والناس كأنما على رؤسهم الطير. لكن أبا بكر أدرك أن النبي إنما يعني بهذه العبارة الأخيرة نفسه، فلم يستطع لرقّة وجدانه وعظيم صداقته للنبي أن يمسك عن البكاء، فأجهش وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا! وخشي محمد أن تمتد عدوى التأثر من أبي بكر إلى الناس، فأشار إليه قائلا: على رسلك يا أبا بكر. ثم أمر أن تقفل جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر فلمّا أقفلت قال: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده» . ونزل محمد عن المنبر يريد أن يعود بعد ذلك إلى بيت عائشة، على أنه لم يلبث أن التفت إلى الناس وقال:

[إيصاؤه المهاجرين بالأنصار]

«يا معشر المهاجرين استوصوا خيرا؛ فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد. وإنهم كانوا عيبتي «٢» التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» .

ودخل محمد بيت عائشة. لكن المجهود الذي أنفقه يومئذ وهو في مرضه قد كان من شأنه أن زاد وطأة المرض شدّة. وأي مجهود بالنسبة لمريض تساوره الحمى يخرج بعد أن تصبّ عليه سبع قرب من الماء، ويخرج تثقله أكبر الشواغل: جيش أسامة، ومصير الأنصار من بعده، ومصير هذه الأمة العربية التي ربط الدين الجديد بأقوى الأواصر وأمتن الروابط بينها. لذلك حاول أن يقوم في غده ليصلي بالناس كما عوّدهم، فإذا هو لا يقدر. إذ ذاك قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس. وكانت عائشة تحرص على أن يؤدّي النبيّ الصلاة لما في ذلك من مظهر الصحة، فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال محمد: مروه فليصل بالناس، فكررت عائشة قولها. فصاح محمد بها والمرض يهزّه: إنّكن صواحب يوسف! مروه فليصلّ بالناس. وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي. وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس مكان أبي بكر. وكان عمر جهير الصوت؛ فلما كبّر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة


(١) المخضب: الطست.
(٢) عيبتي: خاصتي وموضع سري. والعرب تكنى عن القلوب والصدور بالعياب، لأنها مستودع السرائر ومستودع الثياب.

<<  <   >  >>