للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عقيمة تضل ولا تهدي، وتضرّ ولا تنفع. وهي بعد لا تزيدنا علما. ولطالما أجهد الكتاب والفلاسفة أنفسهم يحاول بعضهم حلّها، ويحاول بعضهم معرفة جوهر الخالق جلّ شأنه، فذهب جهدهم عبثا، وأقرّ بعضهم بأنها فوق ما نطيق إدراكه- ولئن قصر عقلنا دون هذا الإدراك ليكون هذا القصور أدنى إلى تثبيت إيماننا. فشعورنا اليقيني بوجوده جلّ شأنه وبإحاطته بكل شيء علما، وبأنه الخالق المصوّر إليه يرجع الأمر كله، من شأنه أن يقنعنا بأنا لن نستطيع أن ندرك كنهه على شدّة إيماننا به. وإذا كنا حتى اليوم لا ندرك ما الكهربا وإن شهدت أعيننا آثارها، وكانت تكفينا هذه الآثار لنؤمن بالكهربا والأثير، فما أشدّنا غرورا ونحن نشهد كل يوم من بديع صنع الله إذا نحن لم نؤمن به حتى نعرف كنهه، تنزّه جلّ شأنه عما يصفون. والواقع في الحياة أن الذين يحاولون تصوير ذاته جلّ شأنه هم الذين يعجز إدراكهم عن السموّ إلى تصوّر ما فوق حياتنا الإنسانية، والذين يريدون أن يقيسوا الوجود وخالق الوجود بمقاييسنا النسبية المحصورة في حدود علمنا القليل. أمّا الذين أوتوا العلم حقّا فيذكرون قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «١» . وتمتلئ قلوبهم إيمانا بخالق الروح وخالق الكون كله، ثم لا يزجّون بأنفسهم في مضاربات عقيمة لا ثمرة لها ولا نتيجة.

ويفرّق القرآن بين الإسلام بعد الإيمان والإسلام دون إيمان. يقول تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) «٢» .

[الإيمان أسس الإسلام]

فمثل هذا الإسلام إذعان لدعوة الداعي عن رغبة أو رهبة أو إعجاب وتقديس دون امتثال النفس هذه الدعوة وفهمها إيّاها إلى حدّ الإيمان بها. فصاحبه لم يهده الله للإيمان عن طريق النظر في الكون ومعرفة سننه، والاهتداء من هذا النظر وهذه المعرفة إلى خالقه، وإنما أسلم لرغبة أو هوى أو لأنه وجد آباءه مسلمين. وهو لذلك لم يدخل الإيمان في قلبه على رغم إسلامه. من أمثال هذا المسلم من يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وهؤلاء الذين يسلمون دون إيمان، وإنما يسلمون عن رغبة أو رهبة أو هوى، تظل نفوسهم ضعيفة وعقائدهم مزعزعة وقلوبهم مستعدّة للإذعان للناس والخضوع لأمرهم. فأمّا الذين تصل عقولهم وقلوبهم إلى أن تؤمن بالله من طريق النظر في الكون إيمانا صادقا، يدعوهم إلى أن يسلموا لله وحده أمرهم، فأولئك لا يعرفون لغير الله خضوعا ولا إذعانا. وهم لا يمنّون على أحد إسلامهم، (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «٣» .

فمن أسلم وجهه لله وهو مؤمن فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك لا يخافون في الحياة فقرا ولا مذلة لأن الإيمان غاية الغنى وغاية العزّة. والعزّة لله جميعا وللمؤمنين.

والنفس الراضية المطمئنة إلى هذا الإيمان لا تستريح إلا في الدأب لمعرفة أسرار الكون وسننه كيما تزداد بالله اتّصالا. وسبيلها إلى هذه المعرفة البحث والنظر في خلق الله مما في الكون نظرا علميّا دعا القرآن إليه وجدّ المسلمون الأوّلون فيه، وهو الطريقة العلمية الحديثة في الغرب. على أن الغاية منه تختلف في الإسلام عنها في الحضارة الغربية. فهي في الإسلام ترمي إلى أن يجعل الإنسان من سنّة الله في الكون سنّته ونظامه، على حين ترمي في الغرب إلى الاستفادة المادية مما في الكون. وهي في الإسلام ترمي أوّلا وقبل كل شيء، إلى حسن


(١) سورة الإسراء آية ٨٥.
(٢) سورة الحجرات آية ١٤.
(٣) سورة الحجرات آية ١٧.

<<  <   >  >>