للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وإنَّما وُصف عذابُ المختومِ على قلوبهم بالعِظَم؛ لأنَّهم حُرموا عن جدوى المشاعرِ، وحُجِبوا عن عالَم النُّور، وحُبِسوا في سجون الظُّلماتِ، فما أعظَم عذابَهم وإن لم يُحسُّوا بإيلامهم كعُضوِ الميِّت والمفلوجِ! وعذابُ المنافقينَ بشدَّة الإيلامِ؛ لأنَّ مشاعرَهم غيرُ مؤوفة (١)؛ لعدَم انطفاءِ نورِ فطرتِهم، والألمُ بقدْر إدراكِ المؤلمِ، فلمنافاة نورِ استعدادِهم لِمَا رسخَ فيهم من الرذائل والملَكات الرَّديَّة والصِّفاتِ الظُّلمانيَّة يتألَّمون، وكان إدراكُهم لذلك أشدَّ إيلامًا، وعذابُهم أقوى وأنكى، وإنْ كان عذابُ الأوَّلينَ - لشدَّة حِجابِهم وغايةِ بُعدِهم من النُّور - أعظمَ؛ لعدَم منافاةِ ذواتِهم لصفاتهم، وضعفِ إدراكِهم لذلكَ، فلم يُحسُّوا بالألم بخلاف هؤلاء.

﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ بسبب ثباتِهم واستمرارِهم على الكذب، وزيادةُ (كان) للثَّبات، وصيغةُ الفعل للاستمرار التَّجَدُّدِي.

وفيه دلالةٌ على أنَّ العذابَ الأليمَ لاحقٌ بهم من أجْل كذبِهم الذي هو أدنى حالِهم في الكفر والنِّفاقِ، فكيفَ سائرُ الأحوال؟

ولا دلالةَ فيه على أنَّ الكذبَ - وهو الإخبار بالشَّيء على خلاف الواقعِ - يُستحَقُّ به العذابُ مطلقًا، كيفَ وقد صُرِّح في كتب الفقهِ أنَّ الكذبَ لإحياء الحقِّ مباحٌ؟

قال الإمامُ الغزاليُّ: إذا اختفى مسلمٌ من ظالم وسألَ عنه وجبَ الكذبُ بإخفائه (٢).


(١) المؤوفة بزنة معونة - بفتح فضم يليه واو ونون وهاء -: هي التي أصابها ما أفسدها وأبطل إحساسها. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي" (١/ ٢٨٢).
(٢) انظر: "إحياء علوم الدين" (٣/ ١٣٧)، و"الأذكار" (ص: ٣٠١)، وعنه نقل المؤلف.