للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عطف الأب فلم يحس بألم الفقد، لأنه لم يعلمه، واستقبل الحياة بهذه الحال، ولم يجعله جده عبد المطلب يحس بالفقد الذى لم يعه، أما الأم فقد فقدها وهو فى وعى، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وإنه لا شئ يعوض عطف الأم الرؤم، وهو حرمان من شئ موجود شعر به، وأصابته لوعته، علمته الصبر وعوده أخضر.

وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت، وهما غريبان، وليس لهما إلا الصحراء، وطريق مدعثر، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وأ لم الفقد، وأ لم الانقطاع، وصار الركب فى رعاية الله تعالى الذى صنعه على عينه، وذلك ليحس مع الصبر واحتمال الالام كريم الرعاية الالهية، والعناية الربانية، ويكون له من هذا زاد نفسى يذكره عندما يلاقى الشدائد فى الدعوة إلى الحق، ومناوأة الشرك وتكاثف المشركين عليه، وتعرضه للأذى والتجائه إلى الله إذا أحس بالضعف.

وإن الذى حلمه، وحل محل أمه فى حضانته جارية حبشية، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأته وحمته.

وإن ارتباط حياته الطاهرة بأمة حبشية تزويد من الله تعالى له بزاد إنسانى. ليشعره بأن الناس سواسية، وأن كل الفضل فيمن يحسن فى عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنة التى لا يستغنى عنها محمد صلى الله عليه وسلم أمة حبشية، لأنه تربية ربانية على المساواة الإنسانية، وأنه لا شرف إلا بالنفع، والعاطفة. لذلك لم يكن غريبا من الذى حضنته جارية حبشية أذاقته حب الأمومة. وإن كان دون حبها، وأوصلته إلى جده محوطا بعناية الله وعطفها- أن يكون نصير الأرقاء، والمانع للرق الإنسانى، فليس غريبا أن يغضب أشد الغضب، عندما يسمع بعض صحابته يعير اخر بقوله «يا ابن السوداء» ويقول فى قوة: «لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى فمحمد ابن البيضاء حضنته السوداء فكان ابنا لهما معا» .

٩٤- ذاق حب الأم، وذاق لوعة فراقه، ولذلك زار قبرها، بعد أن بلغ أشده، وصار رجلا مكتملا سويا ورسولا نبيا، جاء فى الروض الأنف «وفى الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء. فبكى وأبكى» وهذا حديث صحيح، وفى الصحيح أيضا أنه قال: «استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى، فأذن لى واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لى» وفى سند البزاز من حديث بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام فى صدره، وقال له: لا تستغفر لمن كان مشركا، فرجع وهو حزين. وفى حديث اخر ما يصححه، وهو أن رجلا قال له: يا رسول الله أين

<<  <  ج: ص:  >  >>