للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما امتناع أبى طالب ابتداء كما يوهم القول، فسببه الخشية عليه من وعثاء الطريق، ولخشية الضيعة، ولذا عندما نزل على إرادته قال «لا يفارقنى ولا أفارقه» .

خرج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مع عمه للتجارة بالشام، فحلت القافلة بأرض مدينة بصرى، وبصرى كانت موطنا لصوامع الرهبان، يقيمون بها، منصرفين إلى عبادتهم، وتعرف الإنجيل والتوراة، وما يحتويان، فكان لهم مع الرهبنة والزهادة علم بالكتاب وإشارته، وتبشيراته.

[ارهاص وبشارة بالنبوة:]

١٠٢- قامت هذه الرحلة مشتملة على إرهاص كبير معلم بنبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها إعلان عن البشارة بهذه النبوة والإعلام بأماراتها.

لقد كان ببصرى راهب فى صومعة، اسمه بحيرى، وكان على علم بالكتاب، وكان نزلاء هذه الصومعة ذوى علم بالتوراة والإنجيل، يتوارثون ذلك العلم كابرا عن كابر.

وكان من طبيعة بحيرى كما هو طبيعة كل الرهبان ألا يخرجوا للقاء القوافل ولا تعرف أحوالها، ولا استضافة من فيها، لأن الرهبنة تتقاضاهم العزلة وهم لا يخرجون عن سنتها، ولا ينحرفون بأنفسهم عن أحكامها، ويظهر أن قوافل العرب تعودت هذا وتعودوها من هذا الراهب خاصة ألا يلقاهم، ولا يلقوه.

ولكنه فى هذه المرة خرج من صومعته، إذ رأى من البينات ما يتفق وما عنده من التبشير برسول يأتى من بعد عيسى اسمه أحمد. فخرج من الصومعة ليلتقى بتلك القافلة ويعرف من تنطبق عليه تلك الأمارات، ويتحقق فيه التبشير. ذلك أنهم نزلوا قريبا من صومعته، وأنه رأى غمامة تظلهم تسير حيث يسيرون وتقف حيث يقفون، وأنهم إذا اووا إلى فيء شجرة، رأى أغصانها تتهصر، وتميل حتى تظل واحدا منهم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجد هذه العلامات، ويظهر أنه لم يتبين ذلك الصبى، أو تبينه وأراد أن يعرف أحواله، وبقية الأمارات الدالة على أنه المذكور فى الإنجيل.

ولذلك أراد أن يزيد تعرفه بالقوم، فاتجه إلى إكرامهم، فأقام لهم وليمة عامة تشمل صغيرهم وكبيرهم، لا يتخلف منهم أحد، وأرسل إليهم يدعوهم، وقال فى رسالته لهم: «إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعيدكم وحركم» .

لم يكن العجب من الدعوة إلى الطعام، إنما كان العجب من أنه ترك صومعته، وخرج إليهم، ولذا قال رجل من قريش «والله إن لك يا بحيرى لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم» .

<<  <  ج: ص:  >  >>