للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد وصفت حديثه أم معبد بعد البعثة فقالت: «إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن» .

هذا وصف لكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن بعثه الله تعالي، وهو غاية ما كان منه قبل البعثة، فحال ما قبل البعثة ابتداء، وما بعدها هو الانتهاء، وهو اصطفاء الله تعالى ليكون موضع رسالته، ومبلغ وحيه، كان يجمع بين الإيجاز والوضوح، فألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة من غير تعقيد ولا اعظال، بل هو السهل الذى لا توعر فيه، ترى فى كلامه عليه الصلاة والسلام جمال الألفاظ من غير تكلف، وحلاوة اللفظ من غير تحسين ولا تزيين، فهو الجمال الطبعى الذى لا طراوة فيه، ولا جفوة، ولا خشونة.

وكان فيه معانى الإلهام، وجمله الله تعالى بالصفاء، لأنه خرج من نفس صافية، وقلب مفعم بالإيمان والصدق، فكان صافيا كنفسه، خاليا من الشوائب خلو نفسه منها.

وقد وصفه الجاحظ، فقال: «الكلام الذى قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصفة، ونزه عن التكلف، استعمل المبسوط فى موضع البسط، والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذى ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإلهام، وقلة عدد الكلام، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبدأ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل ولا يهب، ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أتم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح فى معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم» .

وإنه قد اجتمع له عليه الصلاة والسلام مع سلامة المعانى حسن اختيار الألفاظ المناسبة فى الحال المناسبة من غير أن يقرع الأسماع، بكلام له رنين، بل بكلام يدخل على القلوب فى أناة ورفق فينساب فيها انسياب النمير العذب، ويكون ثمة تناسق بين المعنى الكريم، واللفظ الجميل من غير إعنات للأفهام، ولا إرهاق للأسماع.

<<  <  ج: ص:  >  >>