للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذى خلقه ليحمل أقوى رسالة، وأعظم هداية، رباه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فما كان من إحن يضعها دبر أذنه، وما كان من واجب تفرغ له ليبلغ الرسالة على أكمل وجه، فلا يشغل نفسه حقد، ولا تملؤها إحن، فحسك الصدور يشغل عن العمل، ويفسد الصلات، ويغرى بالعداوة، ونبى الله تعالى فوق أن يشغله ضغن.

ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام كذلك قبل أن يبعثه الله تعالى، فلم يعلم فى تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهلية وما كانت تبثه من عداوات، بل إنه فى اخر الرسالة يعلن الصفح الكامل، فيقول في قوة ذى العزم من الرسل، «ألا إن دم الجاهلية موضوع، وأول دم أبدأ به دم عمى الحارث بن عبد المطلب» .

ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر «١» » .

ولمحبته للعفو الكريم والصفح الكريم ما كان يوجه لوما على عمل عمل مادام يخص نفسه، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله ما قال لى لشيء صنعته لم صنعت هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع»

ويقول ذلك العشير الذى خدمه فى السفر والحضر: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، أرسلنى لحاجة، فقلت: - لا أذهب- وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون فى السوق، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد قبض بقفاى من ورائى قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال يا أنس، ذهبت حيث أمرتك؛. فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله» ومضى أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حيث أمره أو طلب إليه من حاجة «٢» .

هذا خبر يبدو صغيرا فى مقام أخبار النبوة المحمدية، ولكنه كبير فى مغزاه، وفى معناه، وقد بدت السماحة وسماحة الأخلاق، أولا- فى أنه عفا وسامح خادمه وهو يعانده، ويرد قوله ظاهرا، فما لامه، ولا عتب عليه، ولا احتسبها عليه، ولكنه تركه لتقديره، وقبل ألا يذهب إلا مختارا غير مأمور.


(١) البداية والنهاية ص ٦ ص ٢٦.
(٢) الكتاب المذكور.

<<  <  ج: ص:  >  >>