للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على إرضاء النفس الجماعية ما لم يكن إثما، وهناك صفات تلتبس مع الحياء. أو يبدو بادى الرأى أنها تعارضه.

فقد ظن بعض الناس أن الحياء ضعف نفسى، وأنه قد يكون السكوت فيه نوع من الرياء، وذلك باطل، لأن الحياء الحقيقى ليس ضعفا، ولا ينشأ عن ضعف، إنما ينشأ عن الكمال لأن من عنده الحياء لا يحب أن يظهر منه إلا ما هو كامل ذاته، وألا يظهر منه ما هو مرذول فى ذاته أو يعده الناس مرذولا، وذلك ليس ضعفا، ولكنه نقاء وصفاء للمجتمع من أن ترنقه مظاهر الانخلاع من القيود الاجتماعية، والتحلل من الروابط الإنسانية التى تربط الاحاد ربطا نفسيا.

والشجاعة والحياء يتلاقيان، بل إن تلاقيهما هو ذروة الكمال، فإن قول الحق فى موضعه، وفى وقته المناسب يتلاءم مع الحياء، والسكوت عن النطق بالحق فى وقت الحاجة إليه، لا يعد حياء، بل إنه استخذاء، والحياء حماية للفضيلة، وتضييق على الرذيلة من أن تظهر، وإذا كان للحياء أثر فى شجاعة قول الحق، فانه يحمل القائل على الدعوة إليه فى رفق من غير عنف، فيكون أجدى، وأشد تثبيتا، وأهدى سبيلا، وإن اقتضى الحق مجاهرة به تأخذ وصف القوة، لا يمنعها الحياء.

ولا يظن أحد أن فى الحياء رياء، إنما الحياء ألا تنطق إلا بالحق، أو لا تغمطه، أو تغمض العين على الباطل، إنما الحياء يمكن صاحبه من أن يسوس الحق سياسة المستمسك من غير هوادة إلا أن تكون رفقا.

ولقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء فى بيان الحياء: وأما الحياء والإغضاء، فالحياء رقة تعترى وجه الإنسان، عند فعل يتوقع كراهيته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله، والإغضاء هو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال الله تعالى إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.. «١» الاية ... عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها» «٢»

وإن مظاهر حياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبدو فى عامة أحواله، نذكر بعضا منها يدل على سائرها:

(أ) أن بعض أصحابه كانوا لفرط كرمه يتناولون الطعام، ثم يأخذون فى الحديث، فكان هذا يؤذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد يكون منه اضطراب فى بيته، وإقلاق لراحة أهله، وضيق فى ذات نفسه، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستحيى من أن يأمرهم بالخروج، أو يطلبه إليهم،


(١) سورة الأحزاب: ٥٣
(٢) الشفاء ج ١ ص ٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>