للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج النفوس الشاردة بالرأفة التى تؤنس هذه النفوس، فتقرب بعدها، وتستأنس بعد جفوتها.

ويروى فى ذلك أن أعرابيا جاء يطلب منه شيئا، فأعطاه، ثم قال له أأحسنت إليك؟ قال الأعرابى:

ولا أجملت. فغضب الحاضرون من المسلمين، وقاموا إليه، فأشار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم اليهم أن كفوا، ثم قام عليه الصلاة والسلام ودخل منزله، وأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرجل، وزاد شيئا، ثم قال: أأحسنت إليك؟ قال: نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت، وفى نفس أصحابى من ذلك شيء، فإن أحببت، فقل أمامهم ما قلته بين يدى، حتى يذهب ما فى صدورهم عليك. قال: نعم، فلما كان الغد أو العشى جاء فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا الأعرابى قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضى بذلك، قال الأعرابى نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا» . فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «مثلى ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها: خلوا بينى وبين ناقتي، فإنى أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت إليه، واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليه. وإنى لو تركتكم، حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» «١» .

إن ذلك الحديث، ينبيء عن حكمة الدعوة والإرشاد والهداية إلى الحق، يقرب الشارد، ولا يعاقبه، يدنيه إلى الحق، ولا يهلكه، وإنه يسوس النفوس ويتجه إلى الجادة من غير عنف.

وفيه الشفقة الكاملة، وأنها علاج النفوس، وليس العنف علاجا، ولكنه قمع فى غلظة، وقد يؤدى إلى الإصرار على الشر، والامتناع عن الخروج عن دائرته.

وفى ذلك كمال التبليغ للرسالة الإلهية، وتعليم الراعى كيف يسوس الرعية، ويأخذها إلى مواطن الحق، وحمايته.

وإن شفقته الشخصية على المتصلين به لتبدو فى معاملته لأهله من أزواج وأقارب سواء أكانوا أقربين أم كانوا غير ذلك ممن لهم رحم موصولة.

ولقد امتنع عليه النوم عندما أسر عمه العباس بن عبد المطلب فى غزوة بدر، فكان يبكى لأنينه، وهنا فى هذه القضية، يبدو أمران يظهران متناقضين- أولهما- ألمه لأن عمه وحبيبه العباس قد أسر، ويذوق مرارة الأسر يشفق عليه، ويشتد الأسى عليه- وثانيهما- العدالة المقررة الثابتة التى تسوى بين الناس فى النتائج، إذا تساووا فى الأسباب الموجبة لهذه النتائج المؤدية إليها، وإن الجمع بين دواعى الشفقة، وموجبات العدل عسير على محمد عليه الصلاة والسلام.


(١) الشفاء: ج ١ ص ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>