للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم كان الصابر فى رعى الغنم، ثم كان الصابر فى كسب القوت، وهكذا كان الصبر عدته التى يعدها لنوائب الدهر، وملمات الزمان، وأخذ يحمل واحده أعباء حياته جلدا صبورا.

وإذا كان قد صابر النوازل والقل واحتمل، فقد احتمل نعمة الكثر من المال كما احتمل القل، فلم يطغ إذ جاءه المال الموفور عندما اتجر فى مال خديجة التى صارت من بعد زوجه وأم المؤمنين، فاحتمل النعمة كما احتمل النقمة، وضبط نفسه فى نعمته؛ كما ضبطها فى نقمته، فلم يكن فى الأولى جازعا؛ ولم يكن فى الثانية فرحا فخورا. وقد بين الله تعالى فى كتابه أن الذى لا ييأس فى الحرمان؛ ولا يطغى عند الجدة هو المؤمن الصابر، فقد قال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً؛ ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ «١» .

والصبر فى هذا المقام أجل أنواع الصبر، لأنه هو الذى يكون فى أعاظم الرجال الذين أوتوا القدرة على تحمل الأعباء. لا يأشرون ولا يبطرون فى سرائهم فيكونوا صابرين، ولا يجزعون ويهلعون فى شدائدهم فيذلوا.

وكذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعثه الله تعالى نبيا، فكان مهيأ لأعظم رسالة فى الوجود.

١٥٧- بهذا الخلق الصابر يختار الله تعالى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليكون رسوله الذى يدعو الناس إلى التوحيد فى وسط قوم صلاب شداد غلاظ، فالدعوة فيهم تحتاج إلى عزم الأمور، والصبر من عزم الأمور، بل إن عزم الأمور يحتاج إلى صبر شاق مرير، لا يتحمله إلا أولو العزم من الرجال، وأولو العزم من الرسل، كما قال تعالى مخاطبا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الصبور، والمكاره تحيط به إحاطة الدائرة بقطرها: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «٢» .

كان لابد بعد البعثة من أن يكون علاج الأمور كلها بالصبر، صبر على المشركين فى أوهامهم، وصبر عليهم فى دعوتهم منه إلى الحق، وقد أصروا على الباطل، وصبر على سفهائهم، وصبر على أذاهم المستمر، الذى أقدم عليه ذوو الحقد والعصبية، ولم يستنكره كبراؤهم، وصبر فى الدعوة إلى الإسلام، وما يكأد طريقها، ويعرقل سيرها. ولذلك جعل الله تعالى أقوى أوصاف المؤمنين الصبر. فقال تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «٣» .


(١) سورة هود: ٩: ١١.
(٢) سورة الأحقاف: ٣٥.
(٣) سورة البقرة: ١٥٥، ١٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>