للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما دخل قسطنطين إمبراطور روما فى النصرانية فى الثلث الأول من القرن الرابع، كان ذلك سبيلا لسيطرة الانحراف فيها، وانتقل الاضطهاد من النصارى إلى اليهود فأذيقوا من العذاب كئوسا وشربوا منه، ثم جاء من بعد ذلك لون اخر من الاضطهاد، ذلك أن كنيسة روما خالفت كنيسة مصر فى بعض جزئيات عقائد النصرانية بعد أن انحرفت من الواحدانية إلى التثليث وانقلب الاضطهاد إلى داخل النصارى أنفسهم، فكان منهم الملكانيون الذين تتمثل فيهم عقيدة روما، واليعقوبيون الذين تتمثل فيهم عقيدة المصريين.

وكان ذلك الاضطراب فى العقيدة النصرانية التى حرفت، ثم انتهاؤه إلى أمر غير معقول فى ذاته، من قيل أن المسيح ابن الله، وأنه نزل إلى السموات العلا حيث الله أبوه، وتجسد إلى الأرض لتغفر خطيئة ادم لعصيانه ربه وأكله من الشجرة، فكان غريبا أن يكون تكفيرا للمعصية الأولى بالأكل بمعصية أشد وأوغل، هى قتلهم ولد الله فى زعمهم، والعقل لا يعلم ولا يدرك أن معصية أشد فى حق الله تكون تكفيرا لمعصية أقل، بل لخطأ جاء تضليلا من عدو أثيم.

ومن غرائب تلك العقيدة أنها تحاول الجمع بين الواحدانية والتثليت فيصعب التصوير، ولكن مع ذلك يصدقون على ريب من مفكريهم، وتسليم من عوامهم.

١٧٤- والعرب كانوا فى حيرة أشد، وإن كانت حياتهم لا تمكنهم من التأملات فى العقائد، ولعلهم لو تأملوا، ولم يغلب الاتباع، وقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «١» لكانوا قادرين على الوصول إلى الصواب، أو على الأقل منهم من يصل، كما فعل الحنفاء، وأنهم كانوا قبل البعثة عددا محدودا.

لقد كانت حياتهم مضطربة بين توحيد جزئي، ووثنية جانبية، لقد كانوا يتبعون إبراهيم ويعتقدون أن الله واحده هو خالق الكون ومنشئه ومدبره، فاعترفوا بذلك بواحدانية الخلق والتكوين، ولكن مع ذلك أشركوا معه فى العبادة أحجارا لا تنفع ولا تضر، يزعمون أن العبادة لها تجعل منها شفعاء يشفعون.

ثم كانت البشائر بأن نبيا سيبعث كان يتردد فى البلاد العربية، كان يجرى على ألسنة بعض العرب، كما يروى عن قس بن ساعدة الإيادى أنه ذكر فى إحدى خطبه أن نبيا قد أدركهم زمانه، وان اوانه.

وأن البلاد العربية، وخصوصا الحجاز كانت يتجاوب فيها ذكر احتمال رسول مبعوث، تذاكره كثيرون ممن كانت لهم دراسات للديانات، مثل ما جاء على لسان قس بن ساعدة الانف الذكر، ولعله يوميء إلى أن له صلة بالنصرانية وخصوصا أنه ثبت فى القران، أن التبشير بالنبى محمد الأمى عليه الصلاة والسلام مذكور فى التوراة والإنجيل، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «٢» .


(١) سورة الزخرف: ٢٣.
(٢) سورة الأعراف: ١٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>