للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهجوم، أو حاجزوا بين الإسلام ودعوته، وحالوا بين الشعوب ومعرفته، فكان الجهاد ليتبين الرشد من الغىّ، والهدى من الضلال، ومن بعد ذلك يختارون عن بينة، فقد قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، لَا انْفِصامَ لَها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «١» .

وقد سلك النبى عليه الصلاة والسلام تلك المراتب، وإن كانت التفرقة بين الرتبة الثانية والثالثة دقيقة إذ لا تكادان تنفصلان، والمرتبة الأولى لا تعد مرتبة للدعوة، ولكنها مرتبة التهيئة لها، ولعله يريد منها ما كان من نزول قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... إلى اخر الايات الكريمات، التى نزلت فى أول لقاء النبى صلّى الله عليه وسلّم بروح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام، إلى نهاية الفترة التى قدرناها بما دون ستة الأشهر وتنتهى عند نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «٢»

٢٠٧- وقد كانت الدعوة من بعد ذلك خفية، يلتقى بالأولياء والأصدقاء المقربين، والصفوة المختارة من الصحب الأبرار، وهذه هى المرتبة الثانية.

وإنما كانت الدعوة ابتداء خفية لتتكون خلية الإسلام، وإن الخلايا يكون بذر البذور فيها بالكتمان لأن الجهر يبددها قبل أن تتكون حتى ينمو عودها وتتكون سوقها.

فكل فكرة جديدة لابد أن يلتقى حولها قلوب مؤمنة بها ويتولى من بعد ذلك إعلانها والمجاهرة بها، ثم لابد من تكوين من يتقدمون الدعوة، ومثل الدعوة الخفية، كمثل تكوّن الجنين فى بطن أمه، فإنه لا يظهر للوجود حيا حياة كاملة، صالحا لأن يقاوم دواعى الفناء، والأخذ من عناصر البقاء والتغذى بكل أسباب القوة، فكذلك الدعوة إلى كل فكرة، تقتضى التدبير الخفى، ثم الإعلان الجلى.

ولذلك كانت الدعوة الأولي، ثم كانت المراتب التى تليها.

ولقد يقول الرواة إن الاستخفاء كان نحو ثلاث، كانوا يستخفون بها فى العبادة والمذاكرة، وقالوا إنها كانت فى دار الأرقم بن أبى الأرقم.

ولكن يجب أن نعلم أن الاستخفاء فى هذه الفترة ليس الاستخفاء بالدعوة، فقد كان النبى عليه الصلاة والسلام يعلن ما جاء به من نذير، وما فى جعبته من تبشير، ولكن الذى يستخفى به هو إقامة العبادة التى دعا إليها رب العالمين، ولذلك كان اضطهاد المؤمنين من الضعفاء واضطهاد النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يسلم حمزة وعمر، وخروج المسلمين صفوفا معلنين الإسلام مجابهين المشركين متحدّين قوة الشرك بقوة الله تعالى وقوة الحق، والصبر المستعذب، وإن كان مريرا.


(١) سورة البقرة: ٢٥٦.
(٢) سورة المدثر: ١- ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>