للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يقول قائل إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت ثورة فكرية واعتقادية واجتماعية واقتصادية وإنسانية بشكل عام، ومن شأن الثورات أن تجتذب الجماهير فتندفع فى نصرتها والأخذ بها، ونقول فى الإجابة عن ذلك أن ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام كان فى نتيجته وغايته أعظم ثورة إنسانية راها التاريخ الإنسانى، فى نتيجتها وثمراتها وغاياتها، لا فى وقائعها وأشكالها، فإن الثورات الجامحة انفعالات للجماهير تكون كانفعال الأشخاص لا تلبث أن تنطفئ، إذ ذلك شأن الانفعالات دائما، لا فرق بين أن تكون فى الاحاد وأن تكون فى الجماعات، واعتبر ذلك بالثورات الأوربية، فأعظمها مظهرا الثورة الفرنسية، انفعلت بها فرنسا انفعالة شديدة، ثم لم تلبث حتى أخذت تأكل نفسها، وكثرت ثورات زعمائها على أنفسهم جماعة بعد جماعة حتى رسبت فى اخر الأمر فى حكم يشبه حكم القياصرة، كما كان فى عهد نابليون الذى نال الكمثرى فيها بعد أن نضجت.

أما دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانت نابعة من أحكام المنطق وأحكام العقل، والإمداد الإلهى بروح القدس، وما كانت انفعالة، بل كانت نفوسا مطمئنة راضية مرضية امنت بالحق وأخذت به، دخلها الإيمان ولم يخرج منها. وهذا يكون من شأنه الدوام والاستقرار فى النفوس التى يدخلها، فإذا أشرق فيها إشراق لا ينطفيء، فلا يشبه نار الهش من الأحطاب الذى ينطفيء بأقل الرياح، بل يشبه الماء العميق البعيد الغور الذى لا تهزه الرياح، فلا تعبث به الأهواء.

لذلك كان الذين يدخلون قليلا قليلا من غير طفرة، وانتقال انفعالى.

٢٣٣- ولقد اختبرت قلوبهم من أول دخولهم- لقد ابتدأ الإسلام يسرى كالنور فى الظلام، فأشرقت به قلوب مؤمنة، فدخلها واستقر بها فى وسط لجاجة الشرك وعوجاء أهله، أسلم قوم مؤمنون، ولكن منعوا من أن يقيموا شعائر دينهم، فكانوا ابتداء لا يصلون فى المسجد الحرام، بل كانوا يذهبون للصلاة فى شعاب مكة المكرمة مستخفين بدينهم، لا يجهرون بقراءة القران الكريم بين ظهرانيهم، ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك، ومكانته بين قريش مكانته، وجاء أبو جهل الذى اشتهر بذلك الاسم فى الإسلام واستحقه بعمله، وقال فى تبجح ظاهر للنبى عليه الصلاة والسلام: «ألم أنهك يا محمد عن الصلاة هنا» فلم يلتفت إليه النبى عليه الصلاة والسلام، لأنه يعلم أن أدب الإسلام أنه إذا مر باللغو مر كريما ولم يلتفت.

وكان المسلمون الأولون لا يستطيعون أن يجتمعوا ليتعلموا من الرسول دينهم، بل كانوا يجتمعون خفية فى دار الأرقم بن أبى الأرقم، قالوا إنه يجتمع فى هذا البيت الطاهر نحو تسعة وثلاثين كانوا هم المجتمعين عندما أسلم عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وليس معنى ذلك أن الذين أسلموا كانوا هذا العدد

<<  <  ج: ص:  >  >>