للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان عليه الصلاة والسلام يفرض الرهبة فى قلوب المشركين إن كان لذلك موضع، ولنذكر موضعين كانت فيهما مهابة الرسول فاصلة، قاطعة حاسمة:

أولهما: ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: «رأيتهم وقد اجتمع أشرافعهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم اباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب الهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم.

فبينما هم في ذلك، إذ طلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل يمشى، حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها فى وجهه، فمر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها فقال لهم:

أتسمعون معشر قريش، أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح. فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه قبل ذلك ليرفوه، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول.

إن هذا الذى أفزعهم عزمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخذتهم الدهشة، وأرعبتهم الهيبة، وإذا كانوا بعد ذلك تكاتفوا واعتزموا أن يؤذوه فى مكانه هذا، فإن هذا لا يمنع تأثير مهابته فيهم، وما استطاعوا لها ردا إلا بعد طول مؤامرة ومجاوبة، وإصرار على مقاومة الهيبة، ولو أرادها فى الثانية لكان أفزع لهم، وأروع، ولكنه كان يميل إلى اللين دائما.

الثانى: ما كان فى قصة الأراشى، فقد قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكة المكرمة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشى، حتى وقف ينادى فى قريش، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس فى ناحية المسجد، فقال الأراشي: «يا معشر قريش من رجل يعدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقى» .

فقال من بالمجلس من قريش مستهزئين بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ترى ذلك الجالس، مشيرين إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما يعلمون من عداوة أبى جهل للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اذهب إليه فهو يعديك عليه» .

أقبل الأراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فذكر له ذلك، فقام محمد صلى الله عليه وسلم العظيم معتزما إنصاف الغريب، ولا سلطان معه إلا شخصه، وعون الله تعالى.

فلما رأى المجلس القرشى المشرك قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ماذا يصنع.

<<  <  ج: ص:  >  >>