للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تمهيد]

[الاضطراب الفكرى:]

١- فى القرن الخامس الميلادى وما يليه، كان العالم الإنسانى يموج بالشر، وتضطرب النفوس، واستحكمت الأهواء، وتفرق بنو الإنسان، حتى صار القانون السائد المسيطر، الحق هو القوة، والقوة هى الحق، فشاهت الأفكار، وتقطعت الأسباب. وصار ابن ادم ينقض ما أبرمته الفطرة، ويحل الرابطة الإنسانية الجامعة، وعجز العقل عن أن يحكم بين الناس، بل إنه اتخذ العقل مطية لتبرير الباطل، وتزييف الحق، والعبث بالميراث الإنسانى للنبيين من بعد إبراهيم وموسى وعيسى، وشوهت المفاسد تعاليم موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء المرسلين، فالنصارى قد استسلموا لحكم الأباطرة وزكوه، بل أيدوه، وتفرقوا، وصار بأسهم بينهم شديدا، وأغرى الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

فالملكانيون تحكموا فى اليعقوبيين، حتى نفروا منهم. واليهود شوهوا تعاليم موسى عليه السلام فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وصاروا مع فساد قلوبهم، لا وجود لهم إلا بمعونة قوى يريد أن يكون غالبا لهم ولغيرهم، وتسربلوا سربال العداوة لبنى الإنسان جميعا، إذ يعطون لأنفسهم من الصفات العقلية، والمزايا الدينية ما ليس فيهم وينكرونه فى غيرهم، حتى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وزعموا لغيرهم المنزلة الدون، وكانوا يقولون عن العرب الذين نكبوا بمعاشرتهم.. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.. «١» ، فهم يأخذون منهم بالحق والباطل، ولا يعطونهم شيئا لأنه لا سبيل لهم بحق، ولا بغيره.

٢- وكان الأقربون والأبعدون، والقاصون والدانون فى اضطراب فكرى، وعجز العقل البشرى عن أن يحل مشاكل هذا الوجود. فتاه العقل فى معرفة أصل الوجود، ولم تستطع الفلسفة الأيونية أن تحل مشكلة أصل الوجود، ولا أن تصل إلى منشئه، مما أثبت أن العقل مهما يؤت لا يستطع أن يفسر سر الظواهر، فهو يعرف مظاهر الأشياء، ولا يعرف الأسرار المستكنة الباعثة، يعرف مظاهر الحرارة والكهرباء ولا يمكن أن يعرف ما يحركها، إلا إذا اتجه إلى معرفة المؤثر من الأثر، والمنشىء مما أنشأ. ولكنه- وقد غمر بالمحسوسات، ومظاهر القوى، دون أن يعرف مصدرها، عمى عن الأصل وشغل بالفرع، فتاه فى هذه السماء، وصار فى عمياء، لا يعرف المبتدأ وإن عرف مظاهره.

ومع ظهور الأديان السماوية، واختتامها بالإسلام لا يزال العقل، وهو مأسور بما يحس، لا يعرف ماوراء المحسوس، وكل ما تراه من سيطرة العقل ونفاذه لا يتجاوز المظاهر واستخدامها، وهو يجهل باعثها، ولا يعرف منشئها إلا إذا كان ينفذ من المظهر إلى المنشئ المكون.


(١) ال عمران: ٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>