للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنه لا يمكن معرفة الكون على حقيقته إلا بالإيمان بمن أنشأه، وإن الأديان السماوية تدعو إلى معرفة المنشىء مما أنشأه، ومعرفة الخالق من المخلوق، فهى تدعو إلى دراسة الخلق لمعرفة من أنشأه. تدعو إلى دراسة الكون، وتعرّف مظاهره لمعرفة من وراء هذه المظاهر، ولم يكن ذلك شأن الدارسين للكون فى الماضى، ولا من يدرسون مظاهره المجردة فى الحاضر، وإنما يهمنا الماضى الذى كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الوجود.

٣- تلك كانت حال العقيدة فى الفلسفة الأيونية، والفلسفة اليونانية التى ورثتها، ولما جاء سقراط زعيم هذه المدرسة وكبيرها، أراد أن ينزل بالفلسفة من السماء إلى الإنسان، ودعا إلى ترك البحث عما وراء الطبيعة ومظاهرها، وأراد أن يعمل ما يجدى وما ينفع فى السلوك الإنسانى، بدل أن يهيم فيما وراء الطبيعة من غير هاد يهدى، ولا مرشد يرشد.

أخذ يدرس نظام التعامل الإنسانى، ومقياس الفضيلة الذى يميزها عن الرذيلة، ليميز به الحق من الباطل، وخطأ السلوك واستقامته؛ ليعرف ما هو فاسد وما هو صالح.

ودعا إلى ذلك، واختلف هو وتلاميذه، فمن قائل إن القياس هو المعرفة وهو ما اختاره سقراط، ومن قائل إنه الحكمة والعدالة والشجاعة والعفة. والفضائل كلها ترجع إلى هذه العناصر، وقد اختار ذلك أفلاطون، ومن قائل إنه اللذة أو المنفعة، فما هو نافع، ولو نفعا شخصيا فهو خير، وما لا نفع فيه فهو شر، ومن قائل إن الخير وسط بين رذيلتين.

وهكذا كانت المتاهات العقلية فى إدراك أسس التعامل الإنسانى، كالحيرة فى معرفة العقيدة الصحيحة، فالعقل لم يستطع أن يصل إلى قانون التعامل المستقيم، كما لم يصل إلى إدراك سر الوجود، بل كان يهيم فى نظريات من غير أن يصل إلى حقائق ثابتة.

وفى وسط ذلك الديجور ظهرت السوفسطائية التى تشكك فى حقائق الوجود، فمنهم من أنكرها، ومنهم من شك فى كل شىء، ومنهم من قال إن الحق فى الأشياء هو ما يعتقده كل امرىء فى ذات نفسه، وتسمي العندية، فليس للأشياء حقيقة، وإنما الأمر فيها إلى اعتقاد وجودها.

وهكذا كان الضلال المبين بسبب الاعتماد على العقل المجرد فى وسط تلك الفلسفة التى لا تهدى، بل يضل فيها الفكر، كما يضل السارى فى ظلمات الليل.

[المجوسية:]

٤- ولو غادرنا اليونان ومن سبقوهم إلى الفرس ومن وراءهم فإنا واجدون عجبا، فإنا نجد بجوار الفلسفة اليونانية التى سرت إليهم فلسفة أخرى، أرادت أن تنظم التعامل الإنسانى وتحل مشكلة أصل

<<  <  ج: ص:  >  >>