للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحبيب فى مكة وأبى القدر الحكيم إلا أن ترى بعد ذلك رمسه المدفون فيه، وهى فى كل هذا الصبور المطمئنة إلى قدر الله تعالى العادل: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١» .

ومكثت هناك بجواره مدة لا تقل عن ثلاث سنين كان فيها متاع حسن بالنسبة لها، إذ كانت قريبة من زوجها الحبيب، وقد ارتضت ذلك واطمأنت نفسها، فهى الصابرة الامنة كاسمها، الشريفة كقومها، الكريمة كمحتدها.

ويظهر أنها لم ترد أن يبعد ابنها عن قومه، وهم أشراف مكة، ولم تكن التى تضن به على جده فهى تؤثره على نفسها دائما وقد احتملت المشقة وأخذت تقطع الفيافى والقفار، وليس معها إلا جارية تعينها على مشقة الطريق، وتكون لها رفيقة مع بعد الشقة، وتعاونها فى حضانة الغلام النورانى.

ولكن هذه المجاهدة فى سبيل الوفاء، والإخلاص للولد ولجده أجهدتها الرحلة فماتت، وهى عائدة إلى مكة ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، وهى إذ أسلمت روحها، ودعت الدنيا تاركة عزيزها، كما ودعت أباه من قبله، ولكن وداعها الأول كان لعزيز إلى طريق الأبدية، أما وداعها من بعد، فكان لولدها العزيز، وتركه إلى طريق الحياة والجهاد فيها، ولكنها تركته إلى رعاية الله تعالى مع الجارية التى صحبتها، فرعاه الله تعالى وصنعه تعالى على عينه، حتى وصل إلى جده العظيم فى قومه فاحتضنه.

وهنا نقف وقفة قصيرة، لننظر إلى تلك المجاهدة الهادئة الصبور، فإذا قلنا إنها عاشت كالعذراء إذ لم يكن إلا أنها حملت سر هذا الوجود، وكأنها أودعت أمانة النبوة لتحتفظ بها، وكأنها كالبتول العذراء، بيد أن هذه لم تصطفها الملائكة، عزاء من رب العالمين، إذ اختارها وتعهدها نبى وأقامها فى المحراب وكانت فى رعاية ظاهرة، وأما امنة بنت وهب فقد خوطبت بلسان الفطرة المستقيمة، وعلمت بحكم الباعث فى نفس طاهرة أنها حملت أمانة، واستمرت الأمانة معها فى رعاية الله تعالي، وهى حاملة ما حملت غير وانية ولا مقصرة، ولا هادى يهديها إلا ما انبعث فى نفسها من نور الفطرة، والإحساس بعبء الأمانة.


(١) سورة الأنبياء: ٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>