للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أفزع ذلك العرب وأعظموه، ورأوا مدافعته حقا عليهم، فنفر منهم نفر بقيادة بعضهم وهاجموا أبرهة، ولكنه هزمهم، ومضى قاصدا البيت الحرام، لا يقاومه أحد من العرب إلا هزمه، واستمر سائرا لا يلوى على أحد من العرب إلا أخضعه.

وصل إلى الطائف، وقد رأوا ما حل بغيرهم فمالأوه، وخصوصا أنهم كانوا ينفسون على قريش ما كسبوه من شرف لقيامهم على سدانة البيت، وحاولوا أن يجعلوا مكان تقديسهم بيتا بنوه للات إلههم المزعوم.

أهم الأمر من بمكة من قريش وكنانة وهذيل، وسائر من كان بها، وعلموا أنه لا قبل لهم بمقاومته لما عنده من قوة، ولأن الانتصارات المتتالية فى طول طريقه إلى مكة زادته قوة، وزادتهم خوفا، فسكتوا حتى يكشف المخبوء فى قدر الله تعالى.

ولعل الفزع قد غلب عليه مما علم من منزلة للبيت فى الكتب المقدسة، ومنها كتب النصارى التى أشارت إلى ذلك، فلم يرد أن يستمكن من البيت عنوة، بل أراد أن يسلمه له أهله، لا ليزيد بناءه، بل ليهدمه، فإن فعلوا كان ذلك مبررا فى زعمه.

ومهما يكن فإنه قد تردد فى القتال، أو أراد أخذه بسلام، فأرسل رسولا إلى مكة، وقال له: سل من سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له «إن الملك يقول لكم إنى لم ات لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا له بحرب، فلا حاجة لى بدمائكم: فإن هو لم يرض إلا حربى فأتنى به» .

ذهب الرسول إلى مكة، وعلم أن سيد البلد وشريف مكة هو عبد المطلب بن هاشم فبلغه الرسول، فأجابه عبد المطلب إجابة سليمة، ولكن فى طيها إيمان بالله رب البيت، وذلك لا يخلو من إرهاب بقوة الله.

قال عبد المطلب للرسول: «والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه» .

كان هذا الكلام السهل اللين يخفى فى نفسه إنذارا شديدا لرجل كتابى نصراني، لأنه بهذا الكلم اللين ينبهه إلى أنه لا يحارب أحدا من أهل مكة إنما يحارب الله، ويهدم بيتا بناه بأمر الله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فهو مع هذا اللين يتضمن تهديدا يروّع من كان عنده اعتقاد بالله، وإيمان برسالته.

وقد كان بلا ريب لذلك الكلام وقعه، ومن الكلام الهادىء ما يفعل فى النفوس ما لا تفعله المقاومة بالسيوف، وخصوصا إذا كان الكلام لمن تعود الانتصار فى الحروب، وهزيمة من يدافعه، إذ فى هذا الكلام تهديد بحرب لم يألفها ولم يعرفها، وهى حرب الله، وحرب أبى الأنبياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>