للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نزول الوحي العظيم عليه نوبة بعد نوبة، ونعلم تاريخه الدّاخلي بعد ظهور دعوته وإعلان رسالته، وإنّ عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته وفي كونه محفوظا مصونا، وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وإنّه لم يستطع أحد أن يشك في قيامه على أساس الصدق شكّا يعتدّ به، فهو عندنا ممثل لروح عصره، ومرآة لبيئته، فهو لذلك بريء من كل تصنّع أو تكلف. وإنه بعدم التزام الترتيب فيه، وفي تحدّثه عن الشيء وضدّه معتب لنا، غير أنه عامر بالأفكار العظيمة. فترى منه نفسا ملأى بتلك الرّوحانية، مرتبطة بها، مقصورة عليها، ثملة بأمر الله مع الضعف الإنسانيّ؛ الذي لم يدّع أنه بريء منه، بل أكبر دليل على عظمة محمد أنه لم يدّع قطّ أنه بريء من ذلك» (ص ١٥) . ويقول جيّبن: «لم ينجح في الامتحان العسير رسول من الرسل الأولين من بداية أمره كما نجح محمّد صلّى الله عليه وسلم حين عرض نفسه بادىء ذي بدء بصفته رسولا يوحى إليه- على الذين عرفوا ضعفه البشري، وعرفوه أكثر مما يعرفه غيرهم، فعرض رسالته على زوجه، وعبده العنيد، وابن عمه، وصديقه القديم؛ الذي لم يتحوّل عنه ولم يخذله، وهؤلاء هم الذين سبقوا الناس إلى الإيمان بنبوّته. إنّ نصيب الأنبياء انقلب في حقّ محمّد وتغيّر عما كان عليه فيمن مضى من الرسل، فلم يكن محمّد غير محبوب إلا من الذين لم يعرفوه» . فهذه الشهادات على أنّ من كان أعرف الناس برسول الله وأقربهم إليه كان أشدّهم إيمانا برسالته، وأما الرسل الآخرون فكان الأجانب والغرباء الذين لم يعرفوهم إلا قليلا هم الذين سبقوا إلى الإيمان بهم، وتأخر عن الإيمان بهم، وتلكأ ذووهم، وأهل بيوتهم، والذين كانوا أكثر معرفة بهم. وهكذا كان المؤمنون برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم هم أعرف الناس بحقيقته، وأكثرهم اطّلاعا على أخلاقه، وسننه، وهديه، وقد بلي كلّ منهم في سبيل هذا الإيمان بلاء عظيما، وامتحن امتحانا شديدا، حتى أنّ خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قضت معه ثلاث سنوات محصورة في شعب أبي طالب، تقاسي معه الجوع والظمأ، والفاقة المنهكة. وأبو بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلم يوم ضاقت به أرض مكة، فخرج معه مرتديا ظلام الليل خائفا يترقّب، والعدو في أثرهما يتعقّب مواطىء أقدامهما، فقام أبو بكر بحق

<<  <   >  >>