للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والليلة خمسين إلى ستين ركعة من المكتوبة والنوافل. لقد سقطت عن عامة المسلمين فريضة التهجّد بعد ما فرضت عليهم الصلوات الخمس، لكنّ الرسول كان يقوم الليل، ويصلي صلوات لا تسل عن حسنهن وطولهن حتى كانت قدماه تتورمان من طول القيام، فقالت له عائشة يوما- وقد رأت ما يعاني صلّى الله عليه وسلم في قيام الليل-: إن الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فما بالك يا رسول الله! تلقى العناء، وتتعب هذا التعب الشديد؟ فأجابها صلّى الله عليه وسلم: «أفلا أكون لله عبدا شكورا» «١» وكان في هذه الصلوات معنى محبة الله أغلب عليه صلّى الله عليه وسلم من معنى الخوف، فكان يطيل الركوع حتى يخيل إلى من يراقبه أنه ربما قد نسي السجود، وكان يقيم صلاته من بدء الوحي في فناء بيت الله أمام المشركين الذين كانوا يعادونه، ويؤذونه إيذاء شديدا. وقد هجم عليه بعض المشركين وهو في الصلاة فلم يترك صلاته خوفا منهم. وكان جنباه يتجافيان عن المضجع، وكان قليلا من الليل ما يهجع، ويبيت ساجدا أو قائما والناس نيام، وأشد ما يكون إقام الصلاة حين يلتقي الجمعان في ساحة الحرب، والسيوف مصلتة، والرّماح مشرعة، والقلوب واجفة، ومع ذلك فإنه إذا حان وقت الصلاة صلى منفردا أو صلّى بأصحابه إماما.

فيتناوب بعضهم الصلاة، وبعضهم الحرب، وإمامهم ثابت في الحالين إلى أن يؤدوا فريضة الله، لا يمنعهم عنها مانع.

أيها القارئ! أحبّ أن أطوي لك من صحائف القرون السالفة ثلاث عشرة ورقة لأعود بك إلى السنة الثانية من الهجرة. فتعال معي تنظر إلى ساحة بدر: هؤلاء مؤمنون، وهؤلاء مشركون، لقد التقى الجمعان، واشتد القتال بين المشركين والمؤمنين، وحمي وطيس الحرب، أين هو الرسول يا ترى؟ هاهو ذا ساجد بين يدي رب العالمين، يدعوه ويسأله


(١) عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حتى تفطّرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا. [البخاري (١٥٢) ومسلم (٣٧٧) ] .

<<  <   >  >>