للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاستقبلنا جبل أحد، فقال: «أبا ذر!» قلت: لبيك يا رسول الله! قال:

«ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهبا تمضي عليّ ثلاث ليال، وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين» «١» .

إخواني! لا تحسبوا أن ما قاله صلّى الله عليه وسلم إنما هو كلمات عذبة، وألفاظ يتجمّل بها، بل قال ما قاله عن عزيمة، ولم يظهر للناس إلا ما كان يكنّه صدره، ويعمل به مدّة حياته، جاءه مرة من البحرين ذهب، وفضّة، وأموال جمّة، فأمر بوضع ذلك كله في فناء المسجد، ثم غدا على الناس يصلي بهم الصبح دون أن تقع عينه على ذلك المال في الجهة التي وضع فيها، فلما انصرف من الصلاة دعا الناس، وطفق يوزع المال عليهم حتى فرغ منه، فقام ينفض يديه وثوبه لئلا يكون علق بثوبه الطاهر شيء من غبار ذلك المال، وجاءه من فدك أربعة جمال موقرة بالطعام، فقضى به بعض ديونه، وآتى منه بعض الناس، ثم سأل بلالا: هل بقي من ذلك الطعام شيء؟

فأجابه بلال: لقد بقي منه شيء وليس هاهنا من يأخذه. فقال صلّى الله عليه وسلم: لا أدخل بيتي ما بقي منه شيء. وبات تلك الليلة في المسجد، فلما أصبح بشره بلال قائلا: إنّ الله قد وضع عنك. يعني: أنّ بقية الطعام قد قسمت ولم يبق منه شيء، فشكر الله. ودخل بيته ذات يوم بعد صلاة العصر على غير عادته، ولم يلبث أن خرج منه فاستغرب الناس ذلك، فقال لهم: إني تذكّرت في الصلاة أن في بيتي شذرة من الذهب فخشيت أن يجيء الليل، وهي في بيت محمد. ودخل بيته ذات يوم حزينا كئيبا، فسئل عن ذلك، فقال:

يا أمّ سلمة! إنّ ما جاءنا من الدنانير السبعة قد بقي في الفراش، وقد حان المساء. وممّا يدلّ على زهده صلّى الله عليه وسلم في الدّنيا ومتاعها: أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم مرض مرضه الذي توفي فيه، وكان يتقلب على فراشه من شدّة المرض، فتذكر وهو في هذه الحالة أنّ في بيته دنانير، فأمر أن يتصدّق بها، وقال: أيلقى


(١) وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا تأتي عليّ ثالثة، وعندي منه دينار، إلّا دينار أرصده لدين عليّ» (أي أعدّه) . [مسلم (٢٣٠٢) ] .

<<  <   >  >>