للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فنقول: كيف يمكن اتخاذ الأسوة الكاملة التي تطمئن لها القلوب إن لم تكن جميع نواحي الحياة في الشخصيّة المقتدى بها معلومة، وليس فيها ما يجهله الناس، وما هو مكتوم عنهم وراء حجب التاريخ. إنّ المقتدى به والذي يتّخذ الناس من حياته أسوة لا بدّ أن تكون حياته كلّها واضحة صافية كالمرآة، ليلها كنهارها، لتبين للناس المثل العليا التي يحتذونها في حياتهم بجميع أطوارها ومناحيها.

ليس في أصحاب الدّعوات من يمكن التأسّي به إلا محمد صلّى الله عليه وسلم:

إذا نظرنا إلى حياة أصحاب النّحل، ودعاة الملل، وهداة البشر من الأنبياء والرسل نظر الناقد البصير، وتأمّلنا هداهم، وسيرهم؛ لم نجد فيمن تقدّم ذكرهم من يمكن أن يتّخذ من حياته مثلا أعلى للحياة الإنسانية إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم، وهديه، وسيرته، فهو الذي أرسله الله ليكون فيه أسوة لبني آدم في جميع نواحي حياتهم، وأطوارها، وأحوالها. وقد سبق لنا القول بأنّه ليس في مئات الألوف من المصلحين والنبيين من يشهد لهم التاريخ إلا ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك فإنّ التاريخ لا يعرف من تفاصيل أحوالهم، وشؤون حياتهم، ودخائل سيرتهم إلا نزرا يسيرا، وغير كامل، فكيف يتسنّى للإنسان أن يتّخذ من ذلك أسوة لحياته ذات النّواحي المختلفة؟

أليس من المستغرب أنّ بوذا الذي يبلغ عدد المنتسبين إليه ربع سكان المعمورة، ولا يحفظ التاريخ من سيرته إلا عدّة أقاصيص وحكايات، لو أننا نقدناها بمقاييس التاريخ لنتّخذ لأنفسنا قدوة من حياته وسيرته؛ لخرجنا من ذلك خاسرين. إنّ إحدى تلك الأقاصيص تنبئنا بأنّه ولد في زمان غير معلوم في واد من أودية (نيبال) «١» في بيت «راجه» «٢» ، فكان ذكيّا، وذا طبيعة متوثبة، وله نفس متدبرة، وقلب حسّاس، فلما بلغ أشدّه، وتزوّج، وصار أبا؛ اتفق أن رأى جماعة من الفقراء والبؤساء، فأثّر فيه منظرهم المؤلم، وأثار في نفسه كامن الرّحمة والشفقة، فخرج من


(١) نيبال (Nepal) دولة في وسط جنوب آسيا بين الصين والهند.
(٢) راجه، أي: ملك.

<<  <   >  >>