للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن هذا يصحّ إطلاقه على الدّيانات الثلاث «١» وعلى أصحابها الذين نعدّهم تاريخيين؛ لأننا لا نعمل لهم وصفا أحسن من هذا الوصف، فإنّنا قلّما نعلم عن الذين كانوا في طلائع الدعوة، والذي نعلمه عن الذين جاؤوا بعدهم واجتهدوا في نشر عقائدهم أكثر من الذي نعلمه عن أصحاب الدعوة الأولين.

فالذي نعلمه من شؤون زردشت، وكونفوشيوس أقل من الذي نعلمه عن سولون، وسقراط. والذي نعلمه عن موسى، وبوذا أقل مما نعلمه عن أمبرس (Ambrase) «٢» وقيصر. ولا نعلم من سيرة عيسى إلا شذرات تتناول شعبا قليلة من شعب حياته المتنوعة والكثيرة. ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف لنا الستار عن شؤون ثلاثين عاما هي تمهيد واستعداد للثلاثة أعوام التي لنا علم بها من حياته. إنّه بعث ثلث العالم من رقدته، ولعله يحيي أكثر مما أحيا، وحياته المثالية بعيدة عنّا مع قربها منّا، وإنها تتراوح بين الممكن والمستحيل، بيد أنّ كثيرا من صفحاتها لا نعلم عنها شيئا أبدا، وما الذي نعلمه عن أمّ المسيح، وعن حياته في بيته، وعيشته العائلية، وما الذي نعلمه عن أصحابه الأولين، وحواريه، وكيف كان يعاملهم، وكيف تدرجات رسالته الروحية في الظهور، وكيف فاجأ الناس بدعوته ورسالته. وكم وكم من أسئلة تجيش في نفوسنا، ولن يستطيع أحد أن يجيب عليها إلى يوم القيامة؟!

«أما الإسلام فأمره واضح كلّه، ليس فيه سرّ مكتوم عن أحد، ولا غمّة ينبهم أمرها على التاريخ. ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح، وهم يعلمون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلم كالذي يعلمونه من أمر لوثر، وملتن، وإنّك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطير، ولا أوهاما، ولا مستحيلات، وإذا عرض لك طرف من ذلك أمكنك تمييزه عن الحقائق التاريخية الراهنة، فليس لأحد هنا أن يخدع نفسه، أو يخدع غيره، والأمر كلّه واضح وضوح النهار، كأنه الشمس رأد الضّحى يتبين تحت أشعة نورها كلّ شيء» .


(١) يريد ديانات «بوذا» و «كونفوشيوس» و «زردشت» .
(٢) أمبرس (٣٣٩- ٣٩٧ ق. م) رئيس أساقفة ميلانو، هدى القديس أوغسطينس، وله أناشيد دينيّة.

<<  <   >  >>