للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكما وفى للأحبّاء والأصدقاء، وفى للأعداء، فقد عاهد اليهود ووفى لهم، ولكنهم هم الذين نقضوا العهد، ولا سيما لما تحزّب الأحزاب، وعاهد المشركين في الحديبية ووفى لهم، ولقد جاءه أبو جندل وأبو بصير مسلمين، فردّهما تنفيذا لشروط العهد على كره منهما ومن المسلمين، حتى جعل الله لهما فرجا ومخرجا.

ولما دخل مكة عام عمرة القضاء، وقضى بها ثلاثة أيام ليس معهم إلا السيوف في الأغماد، جاء المشركون إليه كي يخرج، فأبى بعض المسلمين عليهم، ورغب إليهم الرسول أن يدعوه حتى يعرس بالسيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية، فيأكل المسلمون ويأكلون معهم، فأبوا، فأمر رسول الله أصحابه بالانصراف وفاء بالعهد، ودخل بها «بسرف» «١» .

بل بلغ به وفاؤه أن أمر بدفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام، والد جابر، شهيدي أحد في قبر واحد، لأنهما كانا متصادقين في حياتهما الدنيا. وقد كان هذا الوفاء الذي وثّقه الإسلام وزاده امتدادا لوفائه في الجاهلية، لقد عاهد رجلا أن يلقاه في مكان كذا، فمكث ثلاثة أيام يذهب إلى هذا المكان ثم قال: «لقد شققت علي يا رجل، أنا أنتظرك هنا منذ ثلاث» .

وكان صلى الله عليه وسلم أوصل الناس لرحمه وذوي قرابته، ولكن ما كان يؤثرهم على من هم أولى منهم، وكان يقول: «إنّ ال أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين، غير أن لهم رحما سأبلّها ببلالها» «٢» .


(١) سرف: مكان قريب من مكة.
(٢) أي سأصلها بحقها علي، وقد شبه النبي القطيعة بالحرارة التي تجفف ما بين الناس من صلات، والصلة بالماء التي يبردها، ويطفئها، ويرطب ما جف من علاقات. وهو من المجازات النبوية البديعة التي لم يسبق إليها فيما أعلم. والحديث رواه الشيخان.

<<  <  ج: ص:  >  >>