للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كي يردّ ودائع الناس التي كانت عنده، وكان لا يعاهده أحد عهدا إلا وجد عنده حسن الوفاء، ولا يعد وعدا إلا صدق فيه، وقد روي أنه عاهد رجلا أن يلقاه في مكان كذا، فمكث ثلاثة أيام يذهب إلى هذا المكان، والرجل لا يذهب فقال له: «لقد شققت علي» .

وكان الصدق من صفاته البارزة، شهد له بذلك العدو والصديق، ولما بعثه الله إلى الناس جميعا وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين صار ينادي بطون قريش، فلما حضروا قال لهم: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدّقيّ» ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط.

ولما قابل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب- وكان لم يزل مشركا- قال له:

هل جرّبتم عليه كذبا؟ قال: لا، قال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله!!

وكان النبي إلى ذلك كله وصولا للرحم، عطوفا على الفقراء وذوي الحاجة، ويقري الضيف، ويعين الضعيف، ويمسح بيديه بؤس البائسين، ويفرّج كرب المكروبين، وقد وصفته بهذا السيدة العاقلة، الحازمة خديجة وهي أعرف الناس به- في بدء النبوة، فقالت: «ما كان الله ليخزيك أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» «١» !!.

ومن هذا العرض الموجز نرى أن حياة النبي قبل البعثة كانت أمثل حياة وأكرمها، وأحفلها بمعاني الإنسانية والشرف، والكرامة، وعظمة النفس، ثم نبّأه الله وبعثه، فنمت هذه الفضائل وترعرعت، وما زالت تسمو فروعها، وترسخ أصولها، وتتسع أفياؤها حتى أضحت فريدة في تاريخ الحيوات في هذه الدنيا.

إن هذه الحياة الفاضلة المثلى لمن أكبر الدلائل على ثبوت نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فما سمعنا في تاريخ الدنيا قديمها وحديثها أن حياة كلها فضل وكمال، وهدى ونور،


(١) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.

<<  <  ج: ص:  >  >>