للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما بعد الفتح فلم تعد الهجرة واجبة، ففي الحديث المتفق عليه:

«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» ومع هذا فقد أبى الله ورسوله إلا أن تكون المدينة هي الوطن للمهاجرين، فحرم رسول الله على من هاجر قبل الفتح أن يستوطن مكة بعد الفتح، وأباح لمن قصدها لحج أو عمرة أن يقيم بها بعد أداء نسكه ثلاثا لا يزيد عليها، ففي الحديث المتفق عليه- واللفظ لمسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا» ولذلك رثى النبي لسعد بن خولة «١» أن مات بمكة كما رواه البخاري في صحيحه «٢» .

والحكمة في تحريم الإقامة للمهاجرين بمكة بعد الفتح خشية أن يعتبر هذا رجوعا في هجرتهم، لأنهم تركوا ديارهم وأهليهم وأموالهم لله، وفي سبيل نصرة رسول الله، فأراد الله سبحانه أن يستمر تركهم لها ابتغاء مرضاته، ليكون شاهد صدق على قوة إخلاصهم، وعظمة نفوسهم، وسمو أخلاقهم، وليكونوا قدوة حسنة لمن يجيء بعدهم أن من ترك شيئا لله لا ينبغي أن يرجع إليه.

هذا إلى أن المدينة- دار الهجرة- قد أضحت قلب الإسلام النابض، ومركز الدعوة الإسلامية، ففيها استقر الرسول بعد الهجرة، والخلفاء الراشدون من بعده، فما أشد الحاجة إلى أن يبقى فيها السابقون الأولون من المهاجرين من قريش، التي تدين لها العرب كلها، فمن ثمّ حرم على المهاجرين الأولين الإقامة بمكة بعد الفتح، ولو أبيح لهم الرجوع لربما نزع الكثيرون منهم إلى الرجوع إليها، فإن النفوس البشرية مجبولة على حب الوطن والرجوع إليه إذا سنحت الفرصة، لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه- ولله الحكمة البالغة- أن يحرّم ذلك، ليبقى المهاجرون مع الأنصار في البلد الطيب «طيبة» الذي اوى الإسلام، ومنه انتشرت دعوة الإسلام، وعمّ نوره الخافقين، وهو من أسمى أنواع الوفاء.


(١) سعد بن خولة من بني عامر بن لؤي من المهاجرين السابقين، وقد مات بمكة عام حجة الوداع.
(٢) صحيح البخاري كتاب الجنائز. وانظر فتح الباري ج ٣، ص ١٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>