للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي (دار الندوة) فكانوا يجتمعون فيها كلما أهمهم أمر، ويجتمعون فيها اجتماعا عاما كل عام، وكانت تدار فيها المناقشات بكل حرية، وهي تدل على نضجهم التفكيري، ومن يقرأ الحوار الذي دار بينهم في الائتمار بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل الهجرة يعلم ما وصل إليه العرب في باب الشورى «١» .

وإذا كان الجانب الأخلاقي من العناصر المهمة في تكوين الحضارة فقد كان للعرب- حضرا وبدوا- من ذلك رصيد ضخم من كرم، وشجاعة، وحماية للذمار، ومروءة، ونجدة، ورعاية للجار، ووفاء بالعهد، وإباء للضيم والذل، إلى غير ذلك مما لم نذكره، وإن حضارة الأخلاق الكريمة، والصفات النفسية الأصيلة لأهم- عندي- من حضارة البناء، والصناعة، والزراعة، إذ عليها تقوم الأمم التي تستحق البقاء والخلود، وماذا تجدي الحضارة المادية إذا كانت النفوس خالية من المعاني النفسية، والأخلاق الكريمة؟!

لقد كان للعرب خصائص فطرية، وعقلية، ونفسية، وخلقية هي التي أهلتهم لأن يكون منهم سيد البشر وقمة العرب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكونوا حملة هذه الرسالة العامة الخالدة للناس أجمعين، وصدق الله في قوله:

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (١٢٤) «٢» .

ومهما يكن من شيء فقد كان للعرب في جاهليتهم ممالك وحضارات ساهمت إلى حد كبير في بناء الحضارة الإنسانية، فلا تعجب- أيها القارىء الكريم- إذا كانوا لما اعتنقوا الإسلام عن يقين واقتناع صنعوا الأعاجيب في باب الحضارة، وبلغوا فيها شأوا لم تبلغه أمة من الأمم، ولا تزال اثار هذه الحضارة الإسلامية باقية إلى يومنا هذا. لقد كانت هذه الحضارة من أقوى الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، كما شهد بذلك المنصفون من أبناء هذه البلاد.


(١) إنما أردت الاستدلال على نضجهم الفكري وطريقتهم في عرض الاراء وقبولها أو رفضها فحسب، أما الائتمار وما انتهوا إليه من عزم على قتل الرسول فهو ولا ريب جريمة، وأمر منكر.
(٢) الاية ١٢٤ من سورة الأنعام.

<<  <  ج: ص:  >  >>