للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كلّ الجدر، فيصل صوتها الى النفس، تخترق الحواجز فيقيم الإنسان من رقدة، وتنفض عنه همدة. وانظر ما جرى لثمامة بن أثال «١» ، الذي كان


(١) ثمامة بن أثال (١٢ هـ ٦٣٣ م) بن النعمان اليمامي من بني حنيفة، أبو أمامة: سيد أهل اليمامة، صحابي. وقف في حروب الردة ضد الذين حاربوا الإسلام من قومه، وقاتل مع المسلمين، وبعد أن نصح قومه، وواجههم بالحق، وحثّهم على الصدق. وقبل إسلامه له جهود طويلة، وأعمال كثيرة، وإعداد متكرر، كان يرتب أساليب الأذى، ويجهز من أتباعه، ويبعث الأعوان لقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويذكر أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا: «اللهم اهد عامرا، وأمكنّي من ثمامة» . الإصابة، (٢/ ٢٥٠) ، رقم (٤٣٩٠) . فأسلم عامر (عم ثمامة) وأسر ثمامة، ثم أسلم. ويوما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية بقيادة سليط بن عمرو العامري (إمتاع الأسماع، ١/ ٣٠٨. زاد المعاد ١/ ١٢٢، ٣/ ١١٠) ، أو محمد بن مسلمة (البداية والنهاية، ٤/ ١٤٩) على ما يبدو، في السنة السابعة للهجرة- فأسرت هذه السرية ثمامة بن أثال- وهو يريد العمرة- وهم لا يعرفونه. فجاؤوا به إلى النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلم، فوضعه في المسجد، وترك من يقوم على ضيافته يسقيه ويطعمه، ويقدم له الحليب من ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. كما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي خير يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت. فتركه حتى كان الغد ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة» . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلّى الله عليه وسلم. البخاري: المغازي، باب: وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، رقم (٤١١٤/ ٤) . ومسلم، كتاب: الجهاد والسير،
باب: ربط الأسير، رقم (١٧٦٤/ ٣) . وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الأسير يوثق، رقم (٢٦٧٩/ ٣) . زاد المعاد (٣/ ١١٠، ٢٧٧) . مغازي الذهبي، (٣٥٠- ٣٥١) . الاستيعاب (١/ ٢٠٣) . فقدم ثمامة إلى اليمامة، فحبس عنهم ما كان يردهم من الحنطة، وضاقت بهم الحال، فلم يجدوا من يلجؤون إليه في رفع هذا الحصار عنهم غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وإنه لأمر عجيب أن يلجؤوا إليه في ذلك وهم يحاربونه حربا طاحنة، لو استطاعوا قتله، وإبادة المسلمين، وإفناء الإسلام ما تأخروا. ولكنهم يعلمون خلق الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي وصفه الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤] . وإنه لعجب جدّ شديد أنهم يعرفون ذلك ويحاربونه، وأن يستجيب صلّى الله عليه وسلّم لذلك، ويتمه، وينجزه، فأي أفق يرفع الإسلام إليه الإنسان، ويضعه فيه، ويحرّكه في مداره. وهكذا يربي الإسلام أتباعه، ويدعوهم إليه مقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلم (فكتبوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرّحم، وإن ثمامة حبس عنا الحمل. فكتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فحمل إليهم) . الوافي بالوفيات، (١١/ ١٩) . زاد المعاد، (٣/ ٢٧٧) . «الحمل» : ثمر الشجر الناضج، جمعها: أحمال وحمول وحمال. ومنه: «هذا الحمال لا حمال خيبر» يعني: ثمر الجنة، وأنه لا ينفد، وشجرة حاملة. (القاموس المحيط، ١٢٧٦. تخريج الدلالات السمعية، ٧٣٩.) . وهذا جزء من شعر أحد المهاجرين تمثّل به الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أثناء بناء مسجده بالمدينة بعد الهجرة إليها.
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر
أخرجه البخاري، رقم (٣٦٩٤/ ٣) . حياة الصحابة (١/ ٣٤٣) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (٢/ ٣٠) . وكان ثمامة ممن ثبت حين الردّة عن الإسلام، وله مقام محمود في ذلك. وقد أغلظ لهم، وبرأ منهم، وقال مخاطبا زعيمهم: (ما قضيت حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد) . ثم جمع بني حنيفة، وخاطبهم فقال: (يا بني حنيفة إني أرى فيكم بغيا ولجاجة والبغي هلاك واللجاج نكد ... ، وإنكم والله لو قاتلتم أمثالكم لما خفت أن يغلبوكم، ولكنكم تقاتلون النبوة بالكهانة، والقرآن بالشعر، والأنصار بالكفار، والمهاجرين بالأعراب، فلو كان لنادم إقالة أو لشاك بقاء، لم نكره أن تذوقوا عواقب ما أنتم فيه، ولكنه هلاك الأبد) . الوافي بالوفيات، (١١/ ١٩- ٢٠) . كذلك: الاستيعاب، (١/ ٢١٣) ، رقم (٢٧٨) . أسد الغابة، (١/ ٢٩٤) ، رقم (٦١٩) . فأعظمه القوم أن يجيبوه، وبقوا على حالهم ورجع ثمامة مغضبا وقال في ذلك شعرا متنوعا، ثم جمع أتباعه، وشارك المسلمين في دفع أهل الردة وقتالهم ومواجهتهم

<<  <   >  >>