للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تدلنا على شيء عظيم آخر، وهو أن كلمة المسلمين أصبحت نافذة في هذه الجهات وأن قوتهم أصبحت ظاهرة، وأصبحت القبائل في هذه النواحي تخشى قوة المسلمين وتخطب ودّهم، فبنو ضمرة وهم من القبائل المهيمنة على طريق القوافل، يبسط عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم حمايته ويضمن لهم الأمان على أموالهم وأنفسهم. والذي يمنح الأمان هو الأقوى، الذي يستطيع أن يخيف ويؤمّن أيضا. فهذا كله يدلّنا على المدى الكبير الذي وصلت إليه قوة المسلمين في تلك الفترة.

ثالثا: من الأهداف الرئيسية كذلك لتلك الغزوات والسرايا- في هذه المرحلة- تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، بقطع طريق تجارتها إلى الشام، فالتجارة هي مصدر حياة قريش، وأساس قوتها وازدهارها وسيادتها، وبدون التجارة لن تقوم لها قائمة، فحرمانها من نشاطها التجاري هو الموت بعينه، وهو أمر لن تحتمله قريش، ولا جدال في أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يهدف أن يهلك قريشا ويدمّر حياتها، وإنما كان يقصد أن يلقّنها درسا قاسيا، وأن يذيقها طعم الكأس التي جرّعتها المسلمين في مكة، ألم تحاصرهم قريش اقتصاديّا؟ ألم تصادر أموالهم وديارهم؟ فعليها أن تدفع الثمن الآن، فإذا استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمون أن يحصلوا على شيء من أموال قريش، فهذا جزء مما أجبرتهم قريش على تركه في مكة، وما اغتصبته منهم اغتصابا، فتصدّي المسلمين لقوافل التجارة ومحاولة الحصول عليها هو أمر مشروع وعادل، ولا يماري في ذلك إلا جاهل مكابر، عدو للإسلام حاقد عليه.

وقد حققت هذه التحركات العسكرية هدفا آخر نفسيّا، فقد زرعت الخوف والفزع في قلوب قريش، ولا أدل على ذلك من الأعداد الهائلة من الرجال الذين كانوا يقومون على حراسة القوافل في ذهابها وإيابها إلى الشام ومنه، فقد رأيت أن القافلة التي كان على رأسها أبو جهل بن هشام- والتي اعترض لها حمزة بن عبد المطلب- كان يرافقها ثلاثمائة من الحراس وهو أمر لم يكن مألوفا قبل الآن في حراسة القوافل التجارية. إذا فقد «استطاع المسلمون أن يبقوا قريشا على حذر؛ فحراس القوافل وقادتها يتوقّعون لقاء المسلمين في كل لحظة، يخافونهم إذا انبلج الصبح واقترب الليل، كل غبار يتطاير من وراء الأفق يظنون فيه الظنون، وكل همس في الليل يقدرون أن وراءه الموت، وهذا الاستعداد الدائم للحرب يثير الأعصاب، وهو

<<  <   >  >>