للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثالثا: مفهوم الدين ١:

المعنى اللغوي:

تستعمل كلمة "الدين" في كلام العرب بمعان شتى أهمها:

١- القهر والسلطة والحكم والأمر: فيقولون: "دان الناس" أي قهرهم على الطاعة، و"دنته" أي سسته وملكته، وفي هذا المعنى جاء في الحديث النبوي "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت" أي قهر نفسه، وذللها لطاعة الله، بهذا الاعتبار يصبح معنى اسم المفعول "مدين" أي مقهور ومحكوم، وخاضع قال تعالى:

{فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الواقعة: ٥٦/ ٨٦-٨٧] ، أي إن كنتم غير خاضعين لمشيئة الله في الحياة والموت، فهلا أرجعتم الروح إلى الجسد بعد فراقها بالموت.

٢- الطاعة والعبودية، والخدمة، والخضوع تحت غلبته وقهره: تقول العرب: دنتهم، فدانوا أي قدرتهم فأطاعوا.

٣- الشرع والقانون والطريقة، والمذهب والملة، والعادة والتقليد: فيقولون: "ما زال ذلك ديني وديدني" أي دأبي وعادتي.

٤- الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب: فمن أمثال العرب: "كما تدين تدان" أي كما تصنع بغيرك يصنع بك وتجازى، ومن هنا تأتي كلمة "الديان" بمعنى القاضي، وحاكم المحكمة.

استعمال كلمة "الدين" في القرآن الكريم:

كانت العرب تستعمل هذه الكلمة كما رأينا، بهذا المعنى مرة، وبذاك تارة أخرى حسب لغاتهم المختلفة، ومواقفهم المتعددة، فكان استعمال كلمة "الدين" مشوبًا بشوائب اللبس والغموض، حتى نزل القرآن، فاستعملها لمعانيه الواضحة المتميزة، وإنما ميز القرآن كلمة الدين وأوضح معناها حين جعلها بمعانيها اللغوية الأربعة تقوم مقام نظام بأكمله، يتألف من أجزاء أربعة هي:

١- الحاكمية والسلطة العليا "الإلهية".

٢- الطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة "من قبل أتباع الدين، أو المخلوقات".

٣- النظام الفكري، والعلمي الذي أوجدته تلك السلطة والحاكمية.

٤- المكافأة التي تكافئ بها السلطة، أو الجزاء الذي تجزي به على أتباع ذلك النظام، والخضوع والإخلاص له، أو على التمرد عليه، والعصيان له.

ثم يورد أبو الأعلى المودودي الآيات التي تدل على هذه المعاني٢، ويحاول أن يجمع ويؤلف من هذه المعاني تعريفا للدين فيقول:

المراد بـ"الدين" في جميع هذه الآيات هو "نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية، والفكرية والخلقية، والعملية"، فقد بين الله تعالى أن نظام الحياة الصحيح المرضي عند الله هو النظام المبني على إطاعة الله، وإخلاص العبودية له وحده.

قلت: ويمكن تعريف الدين تعريفًا يشمل جميع معانيه اللغوية، والقرآنية كما يلي:

"الدين علاقة خضوع وانقياد، وعبودية من قبل البشر، يشعرون بها نحو خالق

حاكم مسير لأمور الكون، حاكم قهار يحيى ويميت، وإليه النشور، قد وضع لهم نظاما كاملا للحياة بجميع جوانبها، وأمرنا أن نسير عليه، وأخبرنا بالجزاء الذي أعده لجميع المكلفين يوم الحساب"، والله أعلم.


١ أبو الأعلى المودودي: المصطلحات الأربعة في القرآن -من مطبوعات دار القلم.
٢ {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: ٤٠/ ٦٥] أي الطاعة والعبادة، والإيمان بقهره وسلطانه وحده، وبهذا جاء لفظ الدين في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: ٣٩/ ١٤] ، وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: ٣٩/ ١١-١٢] {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: ١٦/ ٥٢] أي له السلطان.
أما الدين بمعنى النظام فقد ورد في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: ١٠/ ١٠٤]
وأما الدين بمعنى الجزاء والحساب: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: ٨٢/ ١٧-١٩] .

<<  <   >  >>