للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[أبو العلاء والنقد]

لعل أبا العلاء من أكثر من تناوله النقاد بالدرس من بين شعراء ومفكري اللغة العربية. وما نريد اليوم أن نعرض للأبحاث التاريخية التي درات حوله كأبحاث نيكلسون ومرجوليوث وسلمون وفون كريمر والراجا كوتي، فتلك تستند إلى مناهج في البحث التاريخي، أكثر اعتمادها على الأدلة النقلية، وهي كتب علمية، نصيب الأدب أو النقد الأدبي منها محدودة، وهي وإن تكن غنية بالتفاصيل التي لا بد لمن يريد الحديث عن أبي العلاء من الإلمام بها، إلا أنها لا تغني عن ضرورة تخطيها إلى الفهم العام لنفسية أبي العلاء فهما لا يستقيم نقد بدونه، بل إنه لمن الواضح أن أمثال تلك الأبحاث قد تميت أبا العلاء بدلا بما يفيدون من تجارب الغير، ينفذون إليها ويضيفون إلى حيثيتهم الخاصة، التي لا يمكن أن تتسع لكل أنواع التجارب البشرية، وتلك مهمة الأدب الأساسية، إذا فقدها لم يعد لوجوده معنى إلا أن يكون ضربا من العبث بالأفكار والألفاظ، يلهو به الناس أو يلهون الغير.

وإذن فالنقد التاريخي تمهيد للنقد الأدبي، تمهيد لازم، ولكنه لا يجوز أن نقف عنده وإلا كنا كمن يجمع المواد الأولية ثم لا يقيم البناء، وأنا بعد لا أجهل فضل هؤلاء الباحثين الذين يتوفرون على الكشف عن وقائع الحقائق، كما أدرك مدى النشوة العقلية التي يجدونها في شق الحجب عما نجهل من تفاصيل، بل أعلم أن الأبحاث التاريخية ما ينتهي برد العناصر المستقاة عند الشاعر أو الكاتب إلى أصولها التي استمدت منها، وبذا تبصرنا بما عندهم من أصالة، ولكني في الحق شديد الحذر من كل تلك الأبحاث، ولا أكاد أطمئن إلى نتائجها من الناحية الإنسانية؛ وذلك لأني لا أفهم الأدب -كما قلت في مقالي السابق- إلا على أنه تعبير فني عن تجارب بشرية، والكاتب أو الشاعر لا يواجه الناس أو الأشياء وفي نفسه عناصر أصيلة ومستقرة، وإنما يواجههم بنفس مجتمعة موحدة كقطرة من المياه لا تمايز بين ذراتها، وإنه لينفعل بالأشياء والناس كما تتردد الأصداء في أنحاء بناء تام. وإن كانت للأديب صفة نفسية فهي على ما أرجح تلك الوحدة التي تختلط فيها الأفكار بالمشاعر والإحساسات حتى أن في خياله فكرا وفي شعوره نظرًا.

<<  <   >  >>