للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[رسالة الغفران]

وقال أناس ما لأمر حقيقة ... فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى

بهذا البيت تتركز -فيما أحسب- مأساة أبي العلاء النفسية، على أن نفهم منه أنه هو ذلك الرجل الذي يؤمن بأنه "ما لأمر حقيقة" وإن آمن "بالشقاء والنعمى" بل بالشقاء فحسب؛ إذ إنه عرف الألم، وأما السرور فطالما تساءل عن سره:

أعن باكيا لج في حزنه ... وسل ضاحك القوم: ممَّ ابتهج

وهو يؤمن بأن الموت حق:

يكر الحول بعد الحول عني ... وتلك مصارع الأقوام حولي

كأي بالألى حفروا لجاري ... وقد أخذوا المعاول وانتحوا لي

فيفزع:

يهال التراب على من ثوى ... فآه من النبأ الهائل

فإذا اطمأن فلحديث إحساسه:

متى غدوت ببطن الأرض مضطجعا ... فثم أفقد أوصابي وأمراضي

أو:

متى ألق من بعد المنية أسرتي ... أخبرهم أني خلصت من الأسر

وهكذا جاء يقين أبي العلاء يقينا حسيا، فهو لا يثق بغير ما تستشعر نفسه، وهو يقين سلبي: يقين بالألم، يقين بالموت، يقين بالخلاص من أسره ومن ألمه، ثم شك فيما عدا ذلك، أي في كل ما يحدثنا به العقل أو النقل، سيان في ذلك حديث عقلنا أو حديث عقول الغير، وأيا كان مصدر ذلك النقل.

وسر هذه المأساة هو ما ذكرت في المقال السابق من عجز أبي العلاء عن فهم حكمة ما ابتلي به من محنة، مع إحساسه القوي بوقعها في نفسه: يقين من الألم وعجز عن الفهم، هذا هو مصدر الحالة النفسية التي تحكمت في كل ما كتب.

نزلت بالرجل محنة العمى، وهو المرهف الحس المعتز بملكاته، فتألم ألما مبرحا، ويئس من الإفلات منها، ثم حاول أن يجد في فهم سرها عزاء، فيئس من الفهم أيضا. ولكأني به يتساءل في فزع: ولِمَ ابتليت دون غيري؟ وهل لم يكن من

<<  <   >  >>