للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنا أعرف هذا الاعتراض وقد سبق أن قرأت قصص تيمور الأخرى، إن لم يكن كلها فمعظمها, ومع ذلك أصر على أن "نداء المجهول" قصة واقعية، وأن محمود تيمور لم يتغير ولم يتجدد ولا تنكر لماضيه ففنه هو هو، وأسلوب الرجل هو الرجل نفسه، ولننظر في ذلك.

وأول ما يطالعنا من تلك القصة هو أنك لا تستطيع أن تلخصها في جملة، فهي غير "بجماليون" المبنية على فكرة التعارض بين الفن والحياة وتحريك الشخصيات كرموز لعلاج تلك الفكرة، وهي غير "دعاء الكروان" التي تجد فيها كل شيء: الشعر في صوت الطائر، ووصف أخلاق الريف المصري في ليالي العمدة، والدراما في قتل هنادي، والقصص التحليلي فلي غرام آمنة بالمهندس، وأما وحدة القصة فأوضح ما تكون في موسيقى المؤلف وسحر أسلوبه.

"نداء المجهول" بهو شجبت به عدة صور؛ ولكنها صور ليست ساكنة فهي تتحرك ملائمة بين حقائقها النفسية وما سيقت إليه من مغامرات. أتريد أن تعرف تلك الصور، بل أن تعرف أصحابها وتميزهم من بين الناس كافة؟

دعنا من الراوي فهو المؤلف نفسه، وما لنا أن نقسوَ على الكاتب فنطالبه بأن يخرج عن حياته فيرسم لنفسه صورة؛ لأن مصادفات الحياة قد ساقته إلى أن يكون أحد أبطال الرواية، وانظر إلى زملائه: فالشيخ "عاد" صاحب فندق في لبنان قد "تعود أن يظهر أمامنا بملابسه الشرقية البديعة، القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، دائم الابتسام يروح فيها ويغدو بمشيئته المتزنة الهادئة ووجهه الصبيح المشرق فتخاله سلطانا من سلاطين ألف ليلة ... ".

وأنا أعترف مع القارئ أن لو اتفق لي أن ذهبت إلى لبنان وبحثت عن الشيخ "عاد" بين أصحاب الفنادق ما استطعت أن أميزه في يسر؛ لأن الكثيرين منهم يلبسون القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، كما يبتسمون بوجوه صبيحة فيشبهون سلاطين ألف ليلة، ومع ذلك فلنغتفر للكاتب إهماله في عدم تدقيق البصر وتمييزه للشيخ "عاد" بشيء يفرق بينه وبين غيره، ولعل للراوي عذره، فهو معجب بالشيخ "عاد"؛ لأن الرجل "حلو الحديث، غاية في السماحة وكرم الضيافة"، وهو بعد قد دل في القصة على شجاعة نادرة وروح كامن للتضحية بل المجازفة النبيلة، وفي هذا ما يدعو الكاتب بلا ريب إلى ألا يرى فيه غير كل جميل، في روحه وفي ملابسه، وألفاظ الجمال عامة لا تحديد فيها وهي ليست من الواقعية في شيء كثير.

<<  <   >  >>