للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[مشكلة المعنى]

وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة بين اللفظ والمعنى، كذلك يستند إلى إحدى المسلمات الأخرى، وهي ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني. وبمراجعة الأمثلة التي أوردها يخيل إليَّ أنه يقصد بالمعنى أحد أمرين:

١- فكرة.

٢- معنى أخلاقيا.

فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية لخلوها فيما يقول من كل معنى مفيد:

ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المطايا رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة بقوله: "ولما قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأباطح" لا تحمل أية فكرة، وإنما هي قصص فني رائع، سبقنا الجرجاني في "دلائل الإعجاز" إلى إظهار ما بها من صور أخاذة، وخصوصا في الشطر الأخير "وسالت بأعناق المطي الأباطح".

ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الآداب الأوربية الحديثة قد شهدت مذهبا قويا في أواخر القرن التاسع عشر، مذهب أمثال Hreedia هرديا و Goutier جوتييه ممن يقولون بالفن للفن، ويجعلون من أسس مذهبهم نظرتهم إلى اللغة نظرة المثالين إلى مقاطع الرخام، أولئك ينتزعون من اللغة صورا وهؤلاء تماثيل، مع ذلك لم يجرؤ أحد أن يقدح في أدبهم أو يخرجه من فنون الشعر لخلوه من المعاني، وقد رأينا أي دور تلعبه الصور في حياتنا النفسية التي تعذيها كل الفنون، كما رأينا في الأمثلة التي سقناها من الأعشى وغيره تفاهة ما بها من معنى تفاهة لم تنل مما بها من قيم فنية.

وأما تطلبه لمعنى أخلاقي فواضح من إعجابه بأمثال قول القائل:

والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع

<<  <   >  >>