للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

باب في الفرق ١ بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى:

هذا الموضع كثيرًا ما يستهوي من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة. وذلك كقولهم في تفسير قولنا "أهلَكَ والليلَ " معناه الحق أهلك قبل الليل، فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول "أهلك والليل " فيجره وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا زيد قام: ربما ظن بعضهم أن زيدًا

هنا فاعل في الصنعة، كما أنه فاعل في المعنى. وكذلك تفسير معنى قولنا: سرني قيام هذا وقعود ذاك، بأنه سرني أن قام هذا وأن قعد ذاك، ربما٢ اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع٣ رفع لأنهما فاعلان في المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع؛ فإن العرب أيضًا قد مرت به وشمت روائحه وراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد في جملة أراجيزه شعرًا من مشطور السريع طويلًا ممدودًا مقيدًا التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها في موضع جر إلا بيتًا واحدًا من الشعر ٤:

يستمسكون من حذار الإلقاء ... بتلعات كجذوع الصيصاء٥

رِدِي رِدِي وِردَ قطاة صماء ... كدرية أعجبها برد الماء٦

تطرد قوافيها كلها على الجر إلا بيتا واحدا، وهو قوله:

كأنها وقد رآها الرؤاء٧

والذي سوغه٨ ذاك -على ما التزمه في جميع القوافي- ما كنا على سمته من القول. وذلك أنه لما كان معناه: كأنها في وقت رؤية الرؤاء تصور معنى الجر من هذا الموضع فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات وكأنه لذلك لم يخالف.


١ كذا في ش. وفي أ، ب: "فرق". وفي ج: "فرق تقدير".
٢ كذا في أ، وفي ب، ش: "وربما".
٣ هما في موضع رفع زيادة عن مكان الجر الإضافة. ويظهر هذا في التابع. فلا غرابة فيه وإنما الوهم الذي يحذر منه ابن جني أن يعتقد أنه ليس إلا مرفوعا، حتى لو قيل يعجبني قيام زيد رفع زيد. وانظر فيما يأتي ص٢٨٣.
٤ في أبعد "الشعر": "قوله". وما هنا في ش، ب.
٥ نسبه في اللسان في "تلع" إلى غيلان الربعي. وذكر ابن جني في الجزء الثاني من هذا الكتاب "باب التطوع بما لا يلزم" قصيدة لغيلان على هذا الروي، وليس فيها ما أورد هنا إلا:
كأنها وقد رآها الرؤاء
وهو يصف قوما في سفينة. يقول: إنهم يمسكون بسكانات السفينة -وسكانها ذنبها الذي به تعدل وهو المعروف بالدفة- وهي طويلة تلعات كجذوع الصيصاء؛ وهو ثمر نخله طويل، وقد كني بالنلعات عن السكانات لطولها، وإنما يمسكون بها خشية أن تلقيهم في البحر فيهلكوا. والشعر في إصلاح المنطق.
٦ يخاطب السفينة فيقول، ردي حتى تصلي المرفأ كما ترد قطاة صماء؛ وصممها ضيق أذنيها.
٧ انظر تكملة هذا الشطر في الجزء الثاني من الخصائص "باب التطوع بما لا يلزم".
٨ كذا في أ. وفي ب: "سوغ له".

<<  <  ج: ص:  >  >>