للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[منشأ الغريب في الحديث]

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفسح العرب لسانا، وأوضحهم بيانا، وأعذبهم نطقا، وأسدهم لفظا، وأبينهم لهجة وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طريق الصواب، وأقدرهم على التعرف في فنون القول، تأييدا إلهيا، ولطفا سماويا، وعناية ربانية، ورعاية روحانية١ ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الإغراب في الكلام، ولا الحوشي٢ من الألفاظ ولكنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الناس كافة وصدق الله في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ٣ ولم يبعث إلى قريش وحدها، وإنما بعث إلى العرب كلهم، وكانت لهجاتهم متغايرة فمنها العذب القريب الفهم الذي يحلو على الألسنة ويخف على الأسماع، ومنها الغريب الحوشي الذي لا يفهمه كل الناس، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطرا إلى أن يخاطب كل قوم بما يعرفون وما يفهمون حتى يقع الخطاب موقعه، ويثمر ثمرته، وكان في لسان الأعراب وأهل البوادي الكلام الغريب والحوشي، ولما جاءه وفد من اليمين وسألوه عن الصوم في السفر قال لهم: "ليس من امبر امصيام في امسفر" ٤, فأبدل لام "أل" "ميما" كما هي لغتهم.

ولذلك كان الصحابة يعجبون من قدرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفائقة على مخاطبة الوفود بما يعرفون، بينما هم لا يقدرون على شيء من ذلك، مع أنهم كان فيهم الذين يرتادون البوادي، ويقابلون الأعراب الأقحاح الذين لم يفارقوا البادية, ولا عجب فهو وحي إلهي، وإلهام رباني وهي خصيصة من خصائصه -صلى الله عليه وسلم.

وكان الصحابة بحكم فطرتهم اللغوية وسليقتهم العربية يعرفون الكثرة الكاثرة من كلامه سألوه أو سأله عنه، فيجيبهم.

ولما جاوز الرسول الرفيق الأعلى وحمل الصحابة رضوان الله عليهم


١ من مقدمة "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير ج١ ص٤.
٢ في القاموس ج٢ ص٢٧٠: "والحوشي بالضم الغامض من الكلام".
٣ سورة سبأ: ٢٨.
٤ رواه البخاري ومسلم: البخاري, كتاب الصوم, باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه، واشتد الحر ... إلخ؛ ومسلم, كتاب الصوم, باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية.

<<  <   >  >>