للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذ لا قيمة للفظ لم يجر به الاستعمال، ولا مدلول للفظٍ شاع باستعمالٍ معين إذا قسر على إيحاء غير معناه الشائع الجاري، إنما اللفظ الذي تلتمس دلالته، ويستشعر ما بينه وبين دلالته من التناسب الطبيعي، هو اللفظ الذي جرى به الاستعمال حتى شاع فيه، وأطلق عليه، وعرف به. وإن علينا -حين نفهم دلالة الألفاظ على هذه الصورة- أن نفرق بوضوح بين القيمة التعبيرية الذاتية من نحو، والمكْتَسَبَة من نحو آخر، في كل من الحرف البسيط، والأصل الثنائي، والبناء الثلاثي، والصيغ المزيدة عل الأصول في استعمالها الوضعي الأول.

وأفضل طريقة لمعرفة الفرق بين القيمة الذاتية والقيمة المتكسبة للفظ ما، تتمثل في تقصي الخطوات المَنْسِيَّة التي مر بها هذا اللفظ حتى تداولته الألسنة بمعنًى خاصٍّ ودلالة معبرة.

وهذه الخطوات المنسية -على صعوبة الجزم بنوع المراحل التي مرت بها، طولًا وقصرًا، واتساعًا وضيقًا؛ وتصريحًا ورمزًا- لا تلقي على اللفظ من الأضواء ما يكفي لتحديد اللحظة التي وُلِدَ فيها، ولا لتعيين المدلول الذاتي الذي يناسبه بعد أن تَمَّ ميلاده، ولا لتبيان القرائن التي حملت الناطقين به على نقله من مفهوم إلى آخر، أو على توليد معنًى جديد من معناه الأصلي القديم١.

وذلك يعني أنَّ لكل لفظٍ نشأة وميلادًا، وأن في كل لفظ اشتقاقًا وتوليدًا، وأن المناسبة الذاتية لا تلتمس إلّا في اللفظ عند نشأته الأولى، وأن هذه المناسبة فيما جدده الاستعمال من مدلولات ذاك اللفظ إنما تُحْتَمَلُ حملًا على المعنى الآصل الأقدم, ولا يخفى حينئذ على الباحث اللغوي أن المناسبة الأخيرة لم تنشأ مع اللفظ ولم تحضر ميلاده، بل اكتسبت إيحاءها ودلالتها من كثرة الاستعمال.


١ قارن بما ذكره بللي في هذا الصدر: Bally, precis de Stylistique, ٢١-٤٧

<<  <   >  >>