أن يكون السكون أثقل من الحركة لا كما علمنا علماؤنا القدماء، ومن ثم آثر الشعراء الحركة رغبة لشعرهم في الشياع والخلود، أو أن يكون السكون أخف من الحركة كما علمونا، غير أن الشعراء المغرمين بالأصعب، آثروا الحركة إدلالا بصنعتهم وقدرتهم، أو أن يكون قد ضاع من الشعر القديم كثير، كما قال أبوعمرو بن العلاء، فألبست علينا النسبة (35).
إن خروج الشعر العربي العماني على النحو القديم نفسه، يثبت ألا لبس هناك، فضلا عن إثباته وثاقة العلاقة، ثم إن التحريك الذي يزيد آخر البيت مقطعا طويلا مفتوحا (ص ح ح)، أثقل- بلا ريب- من التسكين، أما ارتباط الموسيقا بالحركة فككل شيء في هذه الدنيا، غير أنه لا يكون إلا بالسكون!
إن السكون ركن الإيقاع الذي هو أساس الموسيقا، ثم هو قرار اللحن الذي هو قالبها.
إن الحقيقة عندي أن إطلاق القافية وتقييدها جميعا، متعلقان بطريقة المتكلمين في الوقف- والقافية موضع الوقف المطمئن من البيت- التي كانت بالتحريك ثم صارت بالتسكين (36)، وهو ما يسلمنا إلى الفكرة التالية.
ثانيا: القافية المقيدة على الخصوص
{11} إن نسبة تقييد القافية في شعر الستالي (4.08%)، ثم الحبسي (14.65%)، ثم البهلاني (15.46%)، التي قدمها الجدول الأول، وبينت اتجاه الشعر العماني إلى زيادة تقييدها قليلا قليلا، غير غريبة كذلك عن طريقة سائر الشعر العربي (37). وقد رأى الدكتور أنيس أن زيادة تقييدها في شعر العباسيين عنه في شعر الجاهليين، ملاءمة حدثت بينه وبين غناء ذلك الزمان، "بل لا يزال الملحن فينا يرى مثل هذه القافية أطوع وأيسر في تلحين أبياتها" (38). وتوقف الطرابلسي فيما رآه من زيادة تقييدها عند شوقي عنه عند من قبله، ثم زيادته عند الشابي كثيرا عنه عند شوقي، ليقول: "إذا كان ذلك دليلا على محاولة للتحلل من قيود الإعراب عند الشابي، فإنه لا يسمح باعتقاد أن شوقي رام هذه المحاولة" (39).
إنه لا ورود لحديث صعوبة الإطلاق وسهولة التقييد، في نقد الشعراء صغارا أو كبارا، كما سيتضح بعدُ في الفقرة الثالثة والثلاثين، وينبغي أن يتخذ الطرابلسي ما رآه، حجة لذلك لا عليه (40)، فأما ملاءمة التسكين لموسيقا العباسيين دون الجاهليين، لتطور حدث، فعجيب ألا تختل مع المحدثين، رغم طول الزمن الفارق بينهم وبين العباسيين، عن الفارق بين هؤلاء وبين الجاهليين، واشتداد التطور الحادث، وعجيب أن يناقض هذا الرأي غيره السابق في الفقرة العاشرة، فيجري عليه ما جرى عليه.
لقد تطورت طريقة حديث الناس (لغتهم المنطوقة)، صوتا وصرفا ونحوا ودلالة، بأثر عوامل التطور القوية المختلفة، عما كانت عليه في عصر الجاهليين، قليلا قليلا، في عصر العباسيين، في المشرق وفي المغرب ولاسيما في الأندلس، حتى بلغتنا وقد لوّحها التطور (41). وكان من ذلك طرح حركات أواخر الكلمات، ولا سيما في الوقف، أي عموم الوقف بالتسكين الذي تسرب إلى الشعر من خلال تقييد القافية قليلا قليلا؛ لأن وعي الشاعر بالحياة في نفسه ومن حوله، يقتضيه أن يراعي طريقة الحديث المتطورة، بشعره الذي لا يقوله لآذان الأوراق الصماء، على أن طريقة الفن القومي التي هي أثبت من طريقة الحديث اليومي، بقيت متعلقة بإطلاق القافية، إرثا ورثته أخرى عن أولى.
{12} أما نسبة تقييد القافية في شعر الصقلاوي (11.90%)، التي يقدمها الجدول الأول كذلك، وتبدو بقلتها عما قبلها غريبة عجيبة؛ فترجع إلى أن لتعديد القافية في شعره نصيبا أكبر منه في شعر غيره، وفي القافية المعددة يجتمع تسكين التقييد وتحريك الإطلاق- كما سبق في الفقرة التاسعة- وربما اجتمعت للقافية أنواع مختلفة داخل هذا التسكين نفسه.
ثالثا: أنواع القافية المقيدة على العموم
{13} إن تقييد القافية يفقدها قوة من قوى الإسماع الصوتية؛ إذ تذهب حركة الروي (المَجرى) وحرف إشباعها (الوصل)، فيبقى الروي وحيدا صامتا، كما في قول الستالي في مطلع إحدى مقيداته:
"أمط عنك نعت الحمى والطللْ وجل في سبيل الصبا والغزلْ" (42)
فالقافية (والغزلْ) ضعيفة الإسماع بالقياس إليها هي نفسها لو كانت (والغزلِ)، إذ تظهر اللام للسمع بكسرتها (المجرى)، ثم تزداد ظهورا بإشباع الكسرة الذي ينشئ لها بعدها مدا من جنسها (الوصل).
¥