والأصل أن حال المتكلم ومشهور قوله كافية في إيضاح مراده، ومع ذلك فإني أوضح الأمر لمن يكفيه الإيضاح فأقول: إن أهل الإسلام كافة لا يكفرون أصحاب الذنوب ما لم يستحلوها، لا يخرج عن هذا إلا فرقة الخوارج ومن سلك سبيلهم، ممن استحلوا دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم بغير حق.
وهذا المذهب الفاسد معروف من ينتحله ويذهب إليه، وليس ثمة حاجة إلى اقتناص شوارد يدان بها هذا أو ذاك، فإن الأصل في المسلم السلامة، وإذا ادعى مسلم أنه لا يقول بهذه المقالة فالجدير أن تقبل دعواه، ويوكل أمره إلى الله، ولا يكلف بالتزام القول ثم الرجوع عنه.
لقد جاء المنافقون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- في أعقاب غزاة تبوك يعتذرون إليه، فقبل منهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
ونحن اليوم ننادي بتحقيق هذا القدر من التعامل الحسن بين المؤمنين الذين جمعتهم لحمة الدين والإخاء الشرعي، أن يقبل بعضهم من بعض، ويستغفر بعضهم لبعض ويحسنوا الظن فيما بينهم، ويكلوا السرائر إلى الله.
وهذا القول المذكور لا يُقصد به المعنى الذي ظنه السائل، خاصة وأن في نص الكتاب المطبوع ذكر الزاني، وتغريره بالفتيات، وذمه من لا يفعل مثل فعله، وأنه يعد الزنا من الفتوة والرجولة والكمال، ويستخف بمعصيته مع أن الله - تعالى- يقول: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فهل يفتخر الذي يؤمن أن الزنا فاحشة تسخط الله؟!
وهذا يعني أن المقصود ليس الغناء أصلاً، وإنما التمدح بالفجور والزنا والثناء عليه وعلى أهله وانتقاص من لا يفعله بأنه ليس لديه الفتوة، والرجولة والقوة، وبين هذا وذاك فرق كبير.
إن الألفاظ وعاء المعاني، فإذا ظهر المعنى حسن التجاوز عن اللفظ ولو كان فيه نقص أو إخلال أو حتى خطأ.
وقد حكى لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة الرجل الذي قال: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك "، فغلبه الحال عن المقال.
فلا تحمل مقالات الناس فوق قدرها ونصابها، ولا تعزل عن سياقها الخاص والعام، ولا يتطلب من ورائها معنى وقر في ذهن السامع أو القارئ فأصر على الإلزام به؛ لأن المقصود ـ إن شاء الله ـ هو البيان والنصيحة، مع الشفقة والرحمة، وحب الخير للناس.
إن للخوارج مسلكين فاسدين يعزز أحدهما الآخر:
أولهما: مسلك الغلو في الاعتقاد، الذي ظنوه تعظيماً لحرمة الشريعة، وخرجوا به عن حد الاعتدال إلى الإفراط بتكفير أصحاب المعاصي.
وثانيهما - وهو تفريع على الأول-: يتمثل في العدوان على المسلمين والجور في معاملتهم، فاستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم.
وليس في جمهور المسلمين - بحمد الله - من ينتحل صريح رأي الخوارج في الغلو والتكفير بالمعصية إلا فئة قليلة لا شأن لها، وعسى الله أن يكف بأسهم، ويهدي قلوبهم، ويحفظ المسلمين من شرهم.
ولكن هناك من يتجرأ على دماء المسلمين وأموالهم بتأويل فاسد، وهذا خطير، وقد كتبت حوله الكثير، وحذرت من مغبته، وإن كان علاج مثل هذا يتطلب الجد في إزالة أسبابه ودوافعه والتي منها الحجر على الدعوة ومحاربتها، واضطرارها إلى المخابئ البعيدة عن التدارك والتصحيح.
ويوجد وراء هذا وذاك من أهل الخير والتفقه ممن لا يقولون بقول الخوارج وربما أعلنوا عليه الحرب والنكير، لكنهم يقتبسون منهم مسلكهم في القسوة على مخالفيهم، ومحاصرتهم بالتهم، فهذا زنديق، وهذا مبتدع ضال، وهذا خارجي، وهذا مرجئ.
دون أن يكون لهم في ذلك بصر ولا أناة، أو يكونوا من أهل العلم المحتكم إليهم في هذه المسائل، وقد يصبح معقد الولاء والبراء على مثل هذه الأغلوطات، وربما استقر في ذهن الشاب (حديث السن) معنى قريب فتشبث به وجادل حوله، وأضاع فيه أثمن سني عمره، إذ كان خليقاً أن يصرف في البناء والتكوين العلمي والسلوكي.
إن التصحيح والبيان واجب، على أهله الذين هم أهله، ممن يملك العلم والرحمة معاً " آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً ".
ولقد يدرك أولو الألباب الجهود الإسلامية التي يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، مع مسيس الحاجة إليها والعجز المستحكم عن مدافعة العدو الصريح الذي سلب الديار، ونهب الأموال، وصار يتدخل في خصوصيات المسلمين ومعاقد حياتهم.
¥