تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبَناني يدبِّج هذا المقال، وكلِّي جراحاتٌ مزمِنة، وفواجعُ وقوارع تحيطني إحاطةَ السِّوار بالمِعْصم تعاودني بين الفَيْنة والأخرى، كلَّما أفَلَ منها نَجم عاد آخرُ، وكأنَّه يهمس لي قائلاً: لا أحب الآفلين.

لم نكدْ نُكفْكِف دموعَ الأسى على فقيدنا العلاَّمة "بكر أبو زيد" - رحمه الله - ففاجأتْنا "إذا الفجائية" بنبأِ رحيل الجبل الأشمِّ، والطود الأتمِّ، العالِم الراسِخ، والفقيه الشامخ؛ سماحة والدنا: "عبدالله بن جبرين" - رحمه الله - أسدُ السُّنة، وقامِع البدعة، مَن رحل جثمانُه وبقي تاريخه.

غُيِّب في القبر ووسِّد الترابَ، ولكن لم يُغيَّب من ذاكرة التاريخ، ولم يُمحَ من جنان الصحوة الصاعدة؛ بل ما زالت صورةُ ذلك الشيخ الذي كان في الثمانين مِن عمره تداعب همَّتُه مخيِّلةَ أبناء العشرين، رجل بأمَّة، سراج بمفردِه، عَلمٌ في رأسه نار، شيخ في طاقة شاب، في العِلم آية، في الصبر معجزة، متواضعٌ، تَعلَّم التواضعُ منه التواضعَ، لطالما مسح دمعَة، وأرشد ضالاًّ، وعلَّم جاهلاً، وأوقف باطلاً، وأزاح منكرًا، سلسلةٌ متوالية من المكارم والفضائل لا تُحيط به أسطر كهذه، ولكن حسبي من القِلادة ما أحاط بالعُنق، فكما قيل: "قد مات قومٌ وهم في الناس أحياء".

ذهب زمن النوم يا خديجة:

كلمات كان يترنم بها المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد أن نزل عليه قوله - عز وجل -: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2]، وشيخُنا الجبرين منذ نعومة أظفاره ما كان لِلهْوِ في جدوله نصيب، تراه يخرج من بيته الطِّينيِّ في القويعيَّة قد تأبَّط كتابَه، وخرج لينهلَ من المعين الصافي، والمورد العذَب، لم يَثْنِه عن ذلك حرارةُ الشَّمس النجديَّة، ولا لهيبُ الرمضاء، ولا طول الطريق، ولا قلَّةُ السالكين، يتنقل بين شيوخ قريته، كتِلْكم النحلة التي تتنقل بين أزهار الرَّبيع، كان الناس يرونَه بين المزارع والنخيل تارةً يمشي على قدميه، وتارة قد امتطى جملَه طالبًا العلوم التي تُقرِّبه من مولاه، مستلذًّا الصِّعاب في سبيل نيْل المعالي، فبورك الجد يا شمسَ الأصيل.

لم يلبسِ الغالي والنفيس، ما كان - يا طلبةَ العِلم - رفيقًا للكسل، كلاَّ وربي، ما كان خيبة أمل، تاريخٌ مشرِق منذ البداية حتى النهاية، يُذكِّرني بالإمام الشعبي - رحمه الله - لَمَّا سُئِل: بمَ نلتَ هذا العِلم كلَّه؟ فقال: "بنفي الاعتماد، والسَّير في البلاد، وصَبرٍ كصبر الجماد".

وهكذا يرتقي في سُلَّم العلوم، وتجري السِّنون إثرَ السِّنون، وليلةٌ تلوَ ليلة، وتمرُّ وكأنَّها سحابة صيف، أو لمحةُ بصر، تذهب آلامُها، ويبقى حُلوها، فإذا به يحصُل على شهادة الدكتوراه بتقدير ممتاز، التي تفخر هي به، ولا يفخر هو بها، وعمره آنذاك في الستِّين من عمره، وكانت بتخريج أحاديثَ وتنقيح "شرْح الزركشي على مختصر الخِرقي".

انظر - يا رعاك الله - يُناقش رسالةَ الدكتوراه ولِحيتُه بيضاء ناصعة، ناقشها وطلاَّبُه هم دكاترة الجامعات وعُمداء الكليات، فهل وقَف به الحدُّ عند هذا، واتكأ على أريكته، وألقى بالمسؤولية عن كاهله؟! لا ومَن فلق الحبَّة وبرَأ النَّسَمة، لم يرضَ بهذه الحياة التي لا معنى لها؛ لأنَّ شيخَنا فَهِم سرَّ الوجود؛ بل كان يحمل بينَ جنبيه همَّةً تصهر الجُلمودَ.

حقًّا؛ لقد ذهب زمنُ النوم يا خديجةُ، ترجمها شيخُنا على واقعه ترجمةً واقعيَّة، فكان ذلك الرحَّالة الكبير في جِبال وصحاري المملكة، فبعدَ أن تُوفِّي ابنُ باز - رحمه الله - أَخَذ كلَّ صيْف يَخرج لمدَّة شهر أو شهرين في مدن المملكة وقراها، يُقيم الدَّوْراتِ العِلميَّةَ، ويشرح المتون، ويُفتي العامَّة والخاصَّة، وينشر العِلمَ، وينزل على القلوب بوَعْظه الذي ينساب انسيابَ الماء في العُود، فتارةً تراه في المدن الساحليَّة، وتارةً في المدن الجبليَّة، دون كَللٍ أو ملل، وهو ذلك الشيخ الذي ناوشتْه الأمراضُ، وعضتْه الأوجاع، ولكنَّه عظيم، ما انحنَى ولا ركع إلاَّ لربِّه في صلاته.

والله، إن هذا هو الملك، ليس بملك هارون:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير