بدأت أنظر إليهم .. لا أملك من أمري شيئاً .. وكلت أمري إلى الله .. غلبني البكاء فبكيت تمنيت أن أرى أمي وأبي لأقبل أيديهما .. بل والله وألثم أرجلهما .. قبل أن أودع الدنيا .. دعوت الله واستغثت به: ربِّ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت: يا أرحم الراحمين .. إن كانت هذه عقوبة فأسأل الله المغفرة والرحمة .. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء .. وعظم لي الأجر والجزاء .. ثم غلبني البكاء .. فأخذ الممرضون يصيحون بي بلغة أعجمية .. لم أفهم ما يقولون .. لكني كنت أعلم أنهم يصمتونني .. غالبت نفسي .. وتصبرت ..
ذكرت هادم اللذات .. وتفكرت في انحلال الملذات ..
طالما سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي ..
كلما نصحني الناصحون .. قلت: عن قريب أتوب .. وما تبت ..
قد غرّني فيما مضى شبابي .. وجمال سيارتي وثيابي .. ونسيت الاستعداد للحياة الأخرى .. والله لقد عظمت كربتي ... وذهبت قوتي .. وغداً يصبح التراب فراشي .. ليتني كنت من قوّام الليل .. الذين أطار ذكر النار عنهم النوم .. وأطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم ..
فنحلت أجسادهم .. وتغيرت ألوانهم ..
تفكرت في الحشر والمعاد .. وتذكرت حين يقوم الأشهاد ..
ويلي .. إن في القيامة لحسرات .. وإن في الحشر لزفرات .. وعلى الصراط عثرات .. وعند الميزان عبرات .. والظلم يومئذ ظلمات .. والكتب تحوي أخفى النظرات .. والحسرة العظمى عند عرض السيئات .. فريق في الجنة يرتقون الدرجات .. وفريق في السعير يهبطون الدركات .. وما بيني وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات ..
وأخشى أن أصيح: ربّ ارجعوني .. فيقال: العمر .. فات ..
عجباً للموتى .. جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا .. وبنوا مساكنهم فما سكنوا .. تباً لهذه الدنيا .. أولها عناء .. وآخرها فناء .. حلالها حساب .. وحرامها عقاب .. تفكرت في حالي ..
فإذا عمري محدود .. ونفسي معدود .. وجسمي بعد الممات مع الدود ..
آه .. إذا زلت يوم القيامة القدم .. وارتفع البكاء وطال الندم ..
ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير ..
يوم تزل بالعصاة الأقدام .. وتكثر الآهات والآلام .. وتنقضي اللذات كأنها أحلام .. ثم بكيت .. نعم .. بكيت وتمنيت البقاء في الدنيا .. لا لأجل التمتع بها .. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله ..
وفجأة ..
أقبل الطبيب نحوي .. فأردت أن أسأله عن المرض .. ولماذا هذه المضاعفات .. فلم يلتفت إليّ .. وإنما أمر بتخديري تخديراً عاماً ..
فلما غبت عن الدنيا .. سل سكاكينه ومشارطه ..
ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم .. وأخرج العظم ووضعه جانباً .. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم!! ..
استغرقت العملية ساعات .. وبعدها حملوني .. وألقوني على سرير في غرفة ال (إن عاش) أفقت من إغمائي .. فإذا الأجهزة تحيط بي من كل جانب .. هذا لقياس التنفس .. وهذا لقياس الضغط .. والثالث لضربات القلب .. والرابع .. والممرضون يحيطون بي من كل جانب ..
تعجبت من هذه المناظر .. أين أنا .. بقيت واجماً ..
ثم تذكرت أني في أمريكا .. وأني قد كنت في غرفة العمليات ..
رفعت يدي وتحسست رأسي فإذا هو ليّن .. أين العظم؟! .. بالأمس كان رأسي مكتملاً .. بكيت .. سألت الطبيب: أين بقية رأسي؟!!
فقال لي بكل برود: عظمك يبقى عندنا لتعقيمه .. وبعد ستة أشهر ترجع إلينا لنعيده مكانه .. مكثت أياماً تحت العناية المركزة .. ثم أخرجت منها ..
مكثت في أمريكا شهراً كاملاً ... ثم رجعت إلى الرياض ..
وها أنذا أنتظر الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي!! ..
ثم سكت عبد الله .. وهو يدافع عبراته .. وحق له أن يبكي ..
أما أنا ..
فاستمعت منه هذه الكلمات .. وأنا في أشد العجب من تقلب الزمان على أهله .. فبعد ما كان شاباً مفتول العضلات .. بهيّ الوجه .. يتقلب بين المال الوفير .. والوظيفة .. والصحة .. والعائلة المرموقة .. و .. ثم هو الآن على هذا الحال ..
فسبحان من يقضي ولا يُقضى عليه ..
ما أحقر هذه الدنيا .. حقاً إن الآخرة هي دار القرار ..
ومضت الأيام .. وأنا أزوره من حين لآخر ..
ومع العلاج منَّ الله عليه فشُفي من الشلل واستطاع المشي ..
فانقطعت عنه مدة .. ثم اتصل بي وأخبرني أنه سيسافر إلى أمريكا لاستعادة بقية
رأسه .. وبعد رجوعه جئته زائراً فإذا وجهه متهلل فرح مسرور .. وقد أكمل الله عليه نعمته واستعاد بقية رأسه .. وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه ..
أما حال الشاب الآن فهو من الصالحين .. بل من الدعاة إلى الله تعالى .. الذين يخدمون الدين بكل ما يملكون ..
إن نظرت إلى المساكين وجدت أنه يكفل عدداً منهم .. يتولى جمع الزكوات وإنفاقها عليهم بل إن له باعاً في تنسيق المحاضرات لبعض الدعاة ..
والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها .. إلى غير ذلك من وجوه الخير .. ? فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً .. ?
منقول .... للفائدة
أسأل الله تعالى لي .. وله .. ولك .. ولجميع المسلمين الثبات على دينه .. اللهم آمين.
¥