التأريخ للحداثة
(من الصعب منطقيا الركون إلى فترة زمنية أو مساحة مكانية واعتبارها المرتكز الوحيد لإنطلاق الفكر الحداثي بمفهومه الشامل، فهذا الأخير هو حصيلة الجهد الإنساني عبر التاريخ.
لذلك لا يمكن اعتبار الحداثة ظهرت في وقت محدد، فلكل عهد حداثته، وتجديده.
والمتتبع لموضوع الحداثة يجد أنها تركزت على العقل، فيعتبر أكبر فعالية إنسانية عبر التاريخ وقد كان دائما محور الكينونة الإنسانية وعنوان قوتها الرأس. وقد ارتبطت فكرة الحداثة بالعقلنة ارتباطا وثيقا بحيث أن التخلي عن أحدهما هو بمثابة إلغاء الآخر، ولكن التساؤل هل يمكن اختزل الحداثة في العقلنة كما يقول تورين؟ وهل هي تاريخ تقدم العقل؟ أي: تاريخ يقدم الحرية والسعادة وتدمير العقائديات والانتماءات والثقافات التقليدية؟
هل لهذا المفهوم قيمة تاريخية عامة أم أنه لا يعد كونه حالة تاريخية خاصة حتى وإن كانت عظيمة الأهمية؟
ويجيب تورين: بأن النزعة العلمية يبدو أنها قد انتهت بعودة الأديان والقوانين، أو قد قلت عن ذي قبل.
أما يختص باللغة العربية والمجتمع العربي، فإن المتتبع للغة العربية يجد أنها اضمرت في مجتمعنا العربي الراهن وأصبحت مجرد وسيلة هزيلة للتعامل اليومي الروتيني بين الأفراد فباتت هيكلا من هياكل التخلف.
فلم تعد اللغة العربية قالبا للتعبير والتواصل الحضاري، ولا إطار للفكر العلمي، وهذا الانحطاط في التعبير الفكري العربي، أقصد العجز عن استعمال لغتنا الأم استعمالا معبرا دقيقا.
أدى إلى البعد عن التواصل العربي باللغة العربية، وذلك راجع إلى الثروة العلمية الأوربية، وتأثر العرب بهذه الثروة.
إذن فإن إحياء اللغة العربية حضاريا وردم الهوة العميقة التي تفصل العلمي والمثقف العربي عن مجتمعه، هما أحد أبعاد المغزى التاريخي للتثقيف العلمي. فالتثقيف العلمي هو أولا فعل حضاري يساهم مساهمة أساسية في تحديث اللغة العربية، ومن ثم الفكر العربي، وإخراجهما من أزمتهما التاريخية، وهو ثانيا، جسر يصل العلمي بواقعه ومجتمعه الظامئ إلى التقدم.)
إذن يمكننا القول بأن الحداثة لا يمكن اختزالها في وقت محدد، لأنها في كل مجتمع وزمن، حتى وإن اختلفت جزيئا في الحداثة، أقصد في بعض جوانب الحياة.
فمع مر العصور لا يمكن أن نجد اللغة العربية ساكنة لم تتغير، ولم تولد أبعادا جديدة، بعيدا عن أصولها اللغوية، لأن الجانب الاقتصادي والاجتماعي يتغير ويتحدث، باختلاف الزمن، لأن البعد الاقتصادي يغير في كلية الإنسان ومشاعره وتفكيره. وهذا ما نشاهد في العصور الماضية، فمع هذا التغير نجد أن الأدب يتنوع ويتحدث، ويسير حسب العصر الذي عاش فيه، ولا أقصد بذلك أنه مسير لا، فالأدب يغير ويؤثر، كما يتأثر أيضا.
الأدب والحداثة
نجد كلمة أدب حملت دلالة العصور التي مرت بها، فنراها في العصر الجاهلي تحمل معنى الدعوة إلى الطعام، فلما ظهر الإسلام أصبح معناها
(رياضة النفس بالتعليم، والتمرين على ما يستحسن من السيرة، والخلق، والانتفاع لها، واكتساب الأخلاق الكريمة، واصطناع السيرة الحميدة)
ثم تحولت أدب إلى معنى: كل ما يدخل تحت المعرفة من فلسفة، وحساب، وهندسة، وفلك، وطب ونحو صرف وعلم الأنساب والأخبار بإضافة إلى موروث الشعر والنثر.
إذن نجد كلمة أدب تحمل اختلافات الدلالة من عصر إلى عصر، فإذا انقضى عصر، وأحدثت الحياة جديد بعده، أصبح قديما، لكنه متصل به، حتى وإن ابتعد عنه.
ونجد في العصر الحديث الاختلاط المباشر وغير المباشر في الوطن العربي بأوربا عبر البعثات الثقافية والعلمية، مما أدى هذا الاختلاط إلى ظهور التيارات الفكرية، التي أخذت من أوروبا. وتكمن هذه التيارات إلى ما يخالف الأدب العربي، أو إلى الثقافات العربية الأصيلة، والأدهى من ذلك ما يخالف تعاليم الدين ويهدم اللغة العربية.
ولكن نجد أيضا من نتاج تلك البعثات والاتصال، تقدم في الإبداع سواء كان هذا الإبداع علميا أو أدبيا، فنجد شعراء المهجر الذين أضفوا نتاجا إبداعيا في شعرهم وأدبهم، كإيليا أبو ماضي حينما هاجر إلى أمريكا، وبرزت فيه روح الحنين للأوطان والوصف الجمالي للشام وغيره.
لذلك أصبحت الحداثة في الأدب تقدما، وتغييرا أفضلا، وإن كان ذلك محدودا.
الموقف من الحداثة
¥