لقد مرت الحداثة بجدل كبير بين العلماء، حيث أصبح هناك فريقان مؤيدون ومعارضون، فالكل فريق يشنع على الأخر على رأيه وقوله، بل وصل الأمر من بعضهم إلى وصف المؤيدين بالمتحررين عن الدين، وأطلق ذلك شموليا دون أي دليل، أما المؤيدون فبعضهم يطلقون على المعارضين بالتقليديين وعدم مواكبة التحضر.
والحقيقة أن أي جديد يمر على المعرفة الإنسانية يكون فيه جدلا كبيرا، لأن طبيعة النفس البشرية غالبا لا تفضل التغيير، لكن موضوع الحداثة كان الجدل فيه قويا، وزاد من الحراك الثقافي كثيرا.
ويرجع الغذامي في كتابه: (الموقف من الحداثة) إلى الأسباب التي دعت المعارضة للجديد أي الحداثة، إلى أصول المعرفة النقدية، فعليها يتوقف مصير الرؤية النقدية صحة وخطاءا، ويحدد ذلك في ثلاثة جوانب هي
الأول: عدم وجود نظرية معينة محددة للنقد، تقوم على أدلة وبراهين.
أما الجانب الثاني: فهو قصور المعرفة لدى مناوئي التجديد، ويتجلى ذلك بعدم معرفتهم الجديد معرفة دقيقة.
أما الثالث: فيتحدث الغذامي فيه عن الحداثة في الشعر، ويرى بأن المعارضين للحداثة لا يفهمون حقيقة وظيفة اللغة في الشعر، فهم يعتقدون أن اللغة في الشعر مجرد نظم فني للكلمات والجمل حسب أنواع تفعيلات البحر العروضي، ولكن الحقيقة أبعد من ذلك.
فالحداثة إذا أخذت من الجانب الشمولي لها، الذي يقول بأن كل جانب من جوانب الحياة يكون مستحدثا، كالجانب الثقافي والديني وغيرها، فإذا أخذت الحداثة بهذا المفهوم الشمولي، فإننا بإمكان عد ذلك تحررا كبيرا، إذ أن الحداثة ليست في كل ما جاءت به صحيحا، فالدين يتميز بحدود وضوابط لا يمكن الابتعاد عنها، أما الجانب الثقافي وغيره، فإننا أمام جدل واسع لا يمكن الحد منه، لأنه يمكن أن يكون بعدا ثقافيا واسعا، وقضية نسبية غير منضبطة.
ثم لا بد لنا من التفحص والبحث في هذا الجديد، فإذا كنا يحقق لنا تقدما وتحضرا ومزيدا من الإبداع فإن الإقدام به جدير، أما إذا كان عكس ذلك فإننا بالإمكان التوقف عنه وتركه.
الحداثة في الشعر
إن الشعر العربي مر بمراحل عديدة في تأثره بالعصر، والوضع الاجتماعي والاقتصادي وغيره، منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، فالأدب يؤثر ويتأثر بالعصر الذي عاش فيه، فهو عملية انعكاسية للبيئة التي يعيش فيها.
ولكن هذا التأثر يختلف من وضع إلى آخر، فمفهوم الشعر منذ العصر الجاهلي قائم على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي جعل للشعر حدودا إيقاعية مضبوطة، فجعل من أتى بعده يمضي عليها، لكن في العصر الحديث ومع تأثر العرب بغيرهم من الثقافات الغربية، اختلفت تلك الأوزان والحدود، فالشاعر استطاع أن يخرج عن هذه البحور.
والمتتبع للعصور السابقة يجد أن في العصر الأندلسي، نجد بدايات لتلك النفوذ عن حدود القصيدة المعروفة قبل ذلك، فخروج الموشحات، آذن بتعد عن الحدود المتعارف عليها للقصيدة العربية.
ولكن من المهم أن نقف عند أمر هام وهو أن التجديد قدرة لا رغبة ولا اشتهاء ولا تمني. بمعنى ليس كل من اشتهى أن يكون شاعرا مبدعا هو شاعر مبدع، وليس كل من أحب أن يوصف بالمجدد مجددا.
إن التجديد هو فعل التجديد النابع عن الإبداع، والتجديد هو أن تعرف النخبة أننا مجددون، وأن يعترف النقد الشريف بأننا فعلا مجددون مبدعون، لا أن تكون وسيلة للتهويل أو لمجرد التجديد فقط.
لقد مر الشعر في العصر الحديث بمتغيرات كثيرة، سواء على الصورة الشعرية، أو الثقافية أوالفكرية، وكان كل ذلك بقصد الحداثة والتجديد، وأول ذلك وأكبره في وزن القصيدة وإيقاعها، والخروج عن البحور القديمة السابقة التي أرساها الخليل. حيث خرج شعر التفعيلة والمتمثل في القصيدة التي تكون على تفعيلة مفردة، حيث تكون وحدة وزنية لها يختارها الشاعر، بخلاف بحور الخليل المتعدد التفعيلات، وقد كان بدايات تلك القصيدة في عام 1938م على يد علي أحمد باكثير، ومن الأدباء من يقول أن الشاعر بدر السياب هو من سبق لتلك النوع من القصيدة، أما الشاعرة نازك الملائكة فإنها تصر بأنها هي الأسبق لهذا النوع عبر قصيدتها
(الكوليرا) وبعدها أصبح هناك لغط واسع تجاهه تلك الجرأة على القصيدة العربية.
ثم بعد ذلك خرج ما يسمى بقصيدة النثر، والتي تكون أشبهه بكلام منثور دون وزن ولا قافية.
¥