تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[حرب العراق اللغوية]

ـ[د. محمد الرحيلي]ــــــــ[03 - 04 - 2003, 06:58 ص]ـ

ما نزال نرى في الحرب التي تدور رحاها الآن في العراق الاعتماد بشكل واضح لا لبس فيه على "رهاب اللغة". فالمدافعون يحتمون على ألسنة مسؤوليهم وراء لغة عالية النيرة، ترمي الى الايحاء بهوان العدو والتقليل من شأنه، والى تضخيم القوة العارمة لعوام الشعب وبسطائه في العراق، حتى النساء وعجائز المزارعين. ويقابل الغزاة سلاح هذه اللغة بسلاح لغة اخرى تنحو نحو إبطال الاولى ونقضها.

من الواضح ان وزير الإعلام العراقي مثلاً قد أراد في أيام الحرب الأولى أن يمتطي اللغة، وأن يستعمل رهابها سلاحاً فتاكاً يقاوم به الأمريكان والبريطانيين. فمال الوزير في خلال مؤتمراته الصحفية الكثيرة التي عقدها تباعاً الى الحدة والقسوة والبذاءة والمبالغة أحياناً كثيرة. غير أن ما حصل هو أن اللغة امتطت الوزير أيضاً كما امتطاها، إذ كشفت اللغة بجلاء ووضوح عن ثقافته الحقيقية. كما أن اللغة يمكن أن تتكشف للآخرين بسهولة لتفصح عن استراتيجيات استعمالها من لدن الوزير.

يكثر الوزير الصحاف على سبيل المثال من استعمال كلمة (العلج) و (العلوج) في وصف جنود الأمريكان والبريطانيين. وهي لفظة كانت تستعمل في بعض فترات من التاريخ مضت لوصم الأعاجم من غير العرب كالفرس والروم بعجمتهم، والانتقاص من كونهم لا ينتمون للأصل العربي. وهي لفظة محملة بإيحاءات الشتم والانتقاص من الآخرين لكونهم ليسوا من سلالة بني العرب. وهنا تدل القسوة في اختبار الألفاظ على أمرين في اتجاهين متضادين، الأول: أن المدافعين باللغة يمعنون في الذهاب إلى أقصى مدى ممكن من المعجم اللغوي لانتقاء الألفاظ اللغوية المؤذية للخصم، باعتبارها سلاحاً من أسلحة الدفاع. والثاني: أن ما يصلون اليه في الاختيار اللفظي يكشف كشفاً حقيقياً وصريحاً عن حقيقة المستوى الثقافي لهم، بلا مواربة ولا تصنع مستوى ثقافي زائف ليس لهم.

وتميل اللغة التي تستعملها وسائل الإعلام العراقية كلها في وصف موقف العراقيين كافة من مختلف الشرائح الى الاكثار عمداً من ألفاظ (الشراسة والضراوة والشجاعة والاقدام والبسالة والثبات والجهاد والصمود والمقاومة والدفاع .. الخ). بل يحاولون بجميع الوسائل اختراع ألفاظ جديدة أو احياء ألفاظ مهجورة تصب في هذا الحقل الدلالي. ويبتكرون من الألفاظ اللغوية الواصفة للمعركة ما يمكن أن يتجاوز الوصف القديم ب "أم المعارك"، فتوصلوا مثلاً الى التوصيف ب "معركة الحسم". وينكرون التسمية ب "الحرب"، مفضلين عليها اسم "العدوان". في حين يذهبون الى أقصى مدى ممكن في اختيار الألفاظ التي تقلل من شأن الأعداء وتلغي قدراتهم وتبطل قوتهم. فهم (مرتزقة، وعلوج، وخائبون، وعصابات سطو مسلح، وعصابات ارهاب دولي، وجبناء .. الخ). وللمتأمل بعد ذلك أن يرى في هذه اللغة التي تضخم الأشياء مرة وتهونها مرة أخرى ما يختفي وراءها من عقليات متكلميها ونفسياتهم.

يشعر المتكلمون - بوعي حيناً ومن غير وعي أحياناً أخرى - بأن الكلمات تصنع المفاهيم وتشكلها. ولهذا صنع المدافعون كما رأينا مفاهيم الغزو الواقع عليهم بكلماتهم هم، محاولين قدر المستطاع صرف الأنظار عن آثار تشكيل مفاهيم الحرب بلغة الغزاة وكلماتهم. غير أن الغزاة يقومون بالدور نفسه عبر لغتهم وايحاءاتها كما لا يخفى، بل ربما شعروا أن موقفهم يقتضي من العناية بالكلمات أضعاف ما يقتضيه موقف أولئك. ولهذا نرى وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد مثلاً يصف بعض الجماعات المدافعة في العراق بالارهابيين. ونراه هو والرئيس جورج دبليو بوش وكولن باول وبلير يسمون الحرب حيناً "فتحاً" في مقابل وصفها في مقابل وصفها من لدن خصومهم ب "الغزو" أو "العدوان"، وأحياناً أخرى يصفونها ب "حرب التحرير". ونراهم أيضاً يتغنون مزهوين بالمحافظة على سلامة أرواح المدنيين، وحفظ حقوق الانسان، ونحو ذلك، في الوقت الذي يصبون فيه آلاف الأطنان من القنابل على رؤوس المدنيين. ويعدون الناس باليوم الذي تنشر فيه أمريكا وبريطانيا الأمن والسلام على ربوع العراق، ويرفعون الظلم عن العراقيين. وتتبدى هنا بكل تأكيد عقليات الغزاة، وأنماط تفكيرهم، وطرق تفسيرهم لما ينبغي أن تكون عليه الحياة على وجه الأرض.

لا يمكن إذاً بأية حال لمواجهة ما أو صراع ما على وجه الكرة الأرضية، من أي نوع، أن يخلو من الصراع اللغوي، بل لا يمكن له إلا أن يكون في نهاية الأمر صراعاً لغوياً محضاً. تصنع اللغة أشكال النزاع وأنواعه، ثم تصنع هيئة الطرق المتبعة في حل النزاع. ولا تلبث في نهاية المطاف لغة الحرب أن تتحول الى حرب باللغة، وليست لغة حرب العراق وحرب العراق اللغوية إلا نموذجاً لذلك.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير